حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 1.
كانت الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة مجالاً لحديث خاص كان لي مع بعض إخواني من الأساتذة الأدباء في البحرين تعرّضت فيه لبعض أهداف الآية ، و أشرت إلى بعض آفاقها .
و قد رغبت أن أتحدث إليكم ـ أيها الإخوة ـ عن بعض آفاقها الأخرى .
و القرآن بعيد الآفاق ، عميق الأغوار لا ينتهي الباحث إلى غور منه الا ويجد أن وراءه أغواراً أبعد ، ولا يسمو إلى أفق الا ويرى أن فوقه آفاقاً أسمى وأوسع وأعظم .
وتسمو آفاق الكتاب العزيز وتسمو ، وتبعد أغواره وتعمق ، وينقلب البصر وهو حسير ، ويرجع الفكر مبهوراً يسبّح بعظمة القرآن ، و يلهج باكبار رسوله ( صلى الله عليه و آله ) .
إعجاز في اللفظ ، وإعجاز في المعنى ، وإعجاز في الأسلوب ، وإعجاز في البرهنة ، وإعجاز في التشريع وإعجاز في الحكمة ، وإعجاز في استقصاء طبائع هذا الكائن و أدوائه ، وإعجاز في علاجها ، وإعجاز حتى في حصر وجوه الإعجاز .
درس بليغ في الدعوة إلى الله
و الآيات الأربع الكريمة تحوي درساً عالياً في الدعوة إلى الله ـ سبحانه ـ ، تبيّن فيه حدود الدعوة وتُجمل شرائطها ، وترسم فيه صورة حيّة شاخصة للداعية الحق ، وتعيّن له خطته ، ومنهجهُ في الدعوة .
ولابد للأمة من تفهّم هذا الدرس ، ولابدّ لها من العمل على الإفادة منه ، ولابد لها من صوغ أفرادها على هذه الصورة الفريدة ، إذا رغبت في المنزلة التي أعدّت لها في التكوين .
وليست المسألة مسألة رغبة وأمنية ، فكل مسلم يجب أن يكون داعية من دعاة الله (جل شأنه) وشهيداً على الناس من شهدائه ، ولا عذر له أبداً في أن يتغاضى عن هذه المهمّة ، و لا مساغ له في أن يتهاون بها . وصدق الله العظيم فإنه يقول :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ 2.
نعم ، و الظروف الراهنة للأمة من أشدّ الظروف الزاماً عليها بأن تتفهم هذا الدرس الرفيع ، وان تجهد في الإفادة منه .
المبدأ و الغاية و الحدود
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 3.
هذا هو مبدأ الدعوة وهذه هي غايتها ، وهذه حدودها و أبعادها ، ثم هذه شرائطها .
استسلام واثق لله ، و انقياد خالص لأمره ، فالله ـ سبحانه ـ هو مبدأ الدعوة و هو غايتها .
وفي نطاق شريعته ، وفي إطار طاعته تنطلق الدعّوة وتتحدد ، و لا تتجاوزها أبداً ، و لا تقصر عنها ، فهذه هي حدودها وأبعادها .
ثم هي تطابق كامل بين القول والعمل ، وبين السرّ والجهر ، وبين الدعوة والعقيدة . و هذه هي شرائطها ومؤهلاتها .
ثم . . هذه هي الخطوط الأولى التي يضعها كتاب الله ـ سبحانه ـ لصورة الداعية الحق . .
إخلاص في الدعوة ، وإخلاص في العمل ، وإخلاص في الاعتقاد ، واستسلام كامل لله بحيث تذوب معه الشخصية ، وتمحي الغايات . .
ولنتحاكم إلى الفطرة الواعية ، والى العقل السليم في قيمة الدعّوة بعد كل هذه الأرصدة ، وهذه الضمانات .
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 3.
داعية الله و العقبات
وتأتي الآية الثانية لتتم ملامح الصورة وتكمل مقوّماتها :
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... ﴾ 4.
وهذا الحكم كذلك بدهي لا يمتري فيه عقل . . إن الحسنة والسيئة لا تستويان خطراً ، ولا تستويان أثراً .
وكما لا تستوي الحسنة والسيئة فكذلك لا يستوي فاعل هذه و فاعل تلك .
وداعية الله هو الذي ترفّع عن صغار الغايات ، ومحض النصيحة ، ومحض الإخلاص ، فجدير به أن يستكمل هذه الأشواط العظيمة إلى نهاياتها : ان يربأ بنفسه وبدعوته وبإخلاصه من أن يقابل السيئة بمثلها .
. .إنه سيصطدم في دعوته بأهواء يحرص المدعّوون عليها ، وهو يريد تقويمها ، وبعادات وتقاليد فاسدة هم يقدّسونها وهو يريد تحطيمها ، وبأمور كثيرة يمدّها الجهل ، ويرفدها الغيّ وتقوّيها الشهوات والنزوات وهو يريد إصلاحها . . وستثور النفوس الصغيرة ، وتغضب لهذا التحدي ، وتواجه دعوته بالهزء ، ونصيحته بالاستكبار ، وتكيد له ما وسعها الكيد . . ستقابل الحسنة بالسيئة ، وعلى الداعية في هذه المواقف أن يتحرز من السقطة . . أن يبقى في أفق دعوته رفيعاً رفيعاً كالنجم يهدي الحائر ، ويقيل العاثر .
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... ﴾ 4.
ان العقول لا تمتري في هذه الحقيقة ، وإن مردت النفوس ، وان شذّت ، فعلى داعية الله أن يقابل السيئة بالحسنة ، فان ذلك الجامح الغاضب إذا رأى أن سيئته قوبلت بالصفح ، وأن جهله غمر بالحلم انكسرت سورته ، ولان جماحه ، وخجل من نفسه ، واستسلم طائعاً ، واستبدل بالبغض حبّاً وبالعداء ولاء :
﴿ ... ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ 4.
نعم ، إنه حلم الحليم ، و سماح الكريم . . إنها أخلاق الإسلام ينشئ عليها بنيه يقوّم بها طباعهم ، ويروّض جماحهم ، ليقيم بهم المجتمع الأسمى الذي يبتغيه ، ويحقق لهم الغاية الكبرى التي ينشدها . .
. . إنها أخلاق الإسلام التي تجعل كل فرد من أبنائه دليلاً شاخصاً على عظمة الإسلام ، وعظمة أهدافه . .
. . إنها أخلاق الإسلام التي لن يسمع بها أحد إلا أيقن بأهليّة هذا الدين لقيادة الدنيا .
إنها أخلاق الإسلام ، واضافتها إلى الإسلام دليل على أنها لا توهب لكل احد ، ولا تؤتى بغير ثمن . .إنها تفتقر إلى بذل ، وتفتقر إلى جهاد نفس ، وجهاد نزعات . . إنها منحة لا توهب دون أهلية ولا تلقى دون استحقاق .
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 5.
الاعتصام بالله وحده
ولكن نزعات النفس كثيرة العدد ومساربها إلى غاياتها كثيرة الالتواء شديدة التعقيد ، ولا يأمن الداعية المؤمن أن تطغى عليه نزعة من هذه النزعات فتتخذ سبيلها إلى قلبه ، ويتدخّل الشيطان فينزغ ، ويثير ليهوي بالداعية من افقه الرفيع .
وحصنه العظيم من ذلك كله هو الاعتصام بالله من النزعات والنزغات :
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 6.
اعتصم بالله وحده ، فانه الكافي وحده ، وهو الذي بوّأك هذه المنزلة وأمرك بالتعالي ، وأرشدك إلى الاعتصام ، وهو السميع لشكواك ، العليم بحالك . .
اعتصم بالله وكفى ، فكل محاولة من أي ذي قوة ستزول إذا عذت بهذا الحصن العظيم .
هذا هو الدرس الذي نتلقاه خاشعين من الآيات الأربع الكريمة ، وهذه هي الصورة الفريدة التي ترسمها أمامنا للداعية الحق . . فهل نحن داعون ؟ ، وهل نحن سامعون ؟ ، ثم هل نحن عاملون ؟ .
لابدّ للأمة من تفهّم هذا الدرس ، ولابدّ لها من العمل على الإفادة الصحيحة منه ، ولابدّ لها من أن تصوغ أفرادها على هذه الصورة الفريدة اذا رغبت في المنزلة التي اعدّها الله لها في التكوين . والظروف الراهنة من أشد الظروف الزاماً على الأمة بأن تتفهّم ، وأن تجهد في الإفادة .
مشكلة اليوم
أيها السادة !
وليست مشكلة اليوم للإسلام مشكلة مناهج ونظم ، ومفاهيم وكفاءة للقوامة على الحياة ، فقد اثبتت لغة الارقام أن الإسلام أغنى الأديان و المبادئ والشرائع بهذه الأشياء ، و أجدرها جميعاً بقيادة ركب الحياة .
وأقول : إن الإسلام أغناها جميعاً بهذه المؤهلات جرياً مع تصاريف اللغة ، وقد تضيق هذه عن التعبير ، و الا فقد أوضحت لنا الحقائق ـ حتى لم تذر مكاناً للريب ـ أنه لا غناء بغير دين الله .
ليست مشكلة اليوم للإسلام مشكلة مناهج ونظم تسيرّ الحياة ، ولكنها مشكلة من يحمل القبس المشعّ ليضيء الحياة . .
مشكلة جيل واع رشيد ، يفقه الإسلام و يحيا به ، ويعيش له ، ولا يجد السعادة الا في ظلاله .
وهي ـ قبل ذلك ـ مشكلة دعاة أبرار مخلصين يحملون المِشعل ، و يضيؤون الدرب ، ويتغلغلون إلى الفِطَر . . يطردون ما علق عليها من رين ، والى الضمائر يقوّمون ما طرأ عليها من زيغ ، والى العقول والمشاعر والأذهان و الاخلاق يصلحون ما عرض لها من انحراف . .
هذه هي مشكلة اليوم للاسلام . .
مشكلة الاساس الذي لن ترسو القواعد ، ولن تقوم الأضلاع ، ولن ينتهض البناء إلا بعد تثبيته .
فهل نحن سامعون ؟ ثم هل نحن عاملون ؟
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 7.
وصدق الله العظيم 8 .
- 1. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآيات: 33 - 36، الصفحة: 480.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 159 و 160، الصفحة: 24.
- 3. a. b. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 33، الصفحة: 480.
- 4. a. b. c. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 34، الصفحة: 480.
- 5. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 35، الصفحة: 480.
- 6. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 36، الصفحة: 480.
- 7. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 105، الصفحة: 203.
- 8. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث للشيخ محمد أمين زين الدين : العنوان رقم (12) .