حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الحوزات العلمية عند الشيعة
تعريف الحوزة
الحوزة العلمية الدينية هي المكان الذي يقصده طلاب العلوم الدينية لينهلوا من المعارف والعلوم الإسلامية المكتنزة في عقول المراجع والعلماء والفضلاء، كما أن الحوزة هي التي تتولى تبليغ الإٍسلام ونشره بين المسلمين وغيرهم، وهي التي تتولى الدفاع عن الإسلام في مواجهة المشككين والمنحرفين وأصحاب البدع الباطلة، وهي التي تخرّج المراجع والمجتهدين والمبلغين ليحملّوا الإسلام الى كل بقاع العالم لهداية الناس وإرشادهم وإنقاذهم من طرق الفساد والكفر والإنحراف.
الحوزة الشيعية
تتميز الحوزة العلمية الإسلامية عند الشيعة بكونها الحوزة الوحيدة في العالم الإسلامي التي لم تقفل باب الإجتهاد منذ انتهاء عصر النص وهو عندنا يبدأ من أول أزمنة الغيبة الكبرى للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وإلى اليوم، ولا يزال فقهاء الحوزة الشيعية يجتهدون ويستنبطون الأحكام الشرعية من القرآن والسنّة الشريفة لكل ما يطرأ من أمور متجددة لم تكن معروفة في العصور السابقة نظراً لتطور المعرفة والتقدم العلمي الذي وصلت اليه البشرية في زماننا هذا .
سبب بقاء الاجتهاد مفتوحاً عند الشيعة
إن من أهم أسباب بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه في الحوزة الشيعية هو استقلالها المعنوي والمادي عن السلطات السياسية التي حكمت مسيرة المسلمين، وهذه الإستقلالية هي التي أبقت الحوزة بعيدة عن الضغوطات والمضايقات، وحتى لو حصل شيء من ذلك ، فإن كبار العلماء في كل زمن كانوا يرفضون الرضوخ للسلطات القائمة. ومن الأسباب أيضاً الاستقلالية المالية للحوزة الشيعية عن السلطات الحاكمة، فقد كانت الحوزة تعمل على تأمين مصاريف المراجع والعلماء وطلبة العلوم الدينية في الإسلام، بينما استطاعت السلطات الحاكمة، خاصة في الزمن العباسي، إقفال باب الإجتهاد عند المسلمين الآخرين وحصرت المذاهب بأربعة فقط الحنفي، الحنبلي، المالكي، والشافعي، ولم تعتمد أية سلطة حكمت المسلمين المذهب الشيعي كمذهب رسمي بسبب رفض زعماء الحوزة الشيعية عبر التاريخ الإٍسلامي الطويل الرضوخ لأي سلطة حكمت واستولت على أمور المسلمين.
الحوزة الدينية هي التطبيق العملي للنداء الإلهي القرآني
من الواضح جداً أن طريق حفاظ المسلم على الاستقامة في تطبيق الإسلام يتوقف على معرفته بأحكام دينه والالتزام بها ، وهذا يعني أن يكون هناك علماء يقومون بهذه المهمة الجليلة والخطيرة في نفس الوقت. ونظراً لأهمية هذه المسألة نرى أن الله عزوجل هو الذي أصدر أمره الإلهي للمسلمين ليتلقوا العلوم الإسلامية ويبلغوها لأتباع الإسلام، وهذا ما ورد في قوله تعالى في سورة التوبة ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ 1، فالآية هذه وإن لم تشتمل ضمن ألفاظها على كلمة حوزة إلا أنها تحوي معناها ووظيفتها، وهي دعوة للمسلمين لأن يعملوا على تأسيس مكان أو أماكن متعددة على امتداد العالم الإسلامي لكي تتلقى فيها مجموعات من أبناء الإسلام علوم هذا الدين، ومن ثم يرجعون إلى شعوبهم وبلدانهم ليمارسوا المهمة التبليغية للناس، وكل مكان من هذه الأماكن هو الذي نسميه بـ الحوزة الدينية التي ينبغي أن تحتوي بحسب العرف القائم على الآلاف من طلبة العلوم الدينية والفقهاء والمراجع الذين يقومون برعاية الأمور في الحوزات ويشرفون على حسن سير الأمور فيها من النواحي التعليمية والأخلاقية وغير ذلك. فالحوزة ليست مجرد مكان لتعليم العلوم فقط، وإنما هي المكان المعد لتخريج العلماء والمبلّغين الذين ينبغي أن يكونوا مؤهلين من كل النواحي: العبادية والإيمانية والأخلاقية والسلوكية حتى يكونوا ذا أثر فاعل بين الناس عندما يمارسون مهامهم وواجباتهم الدينية .
الظهور الأول للحوزة الشيعية
من المعلوم أنه بعد حادثة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام كان الخلفاء الأمويون متسلطين على الإسلام والمسلمين فلم يسمحوا للأئمة عليهم السلام أو لأتباعهم أن يعملوا بحرية، وهذه الطريقة من التعامل مع الأئمة هي التي ابتدعها معاوية فقد عمل على ترويج روايات غير صحيحة منسوبة الى النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه لكي تصبح متداولة بين المسلمين وتكون سبباً لانحرافهم عن الإسلام المحمدي الأصيل، وسعى أيضاً إلى التخلص من الإمام الحسن عليه السلام عبر إغراء زوجته ونجح في ذلك واستشهد الإمام عليه السلام على يد زوجته بنت الأشعث.
لكن ما حدث بعد كربلاء أدى الى حصول شعور عام عند الأمة بأن هناك خطراً على الإسلام، مما دفع بالكثير من الثورات أن تقوم ضد الأمويين مما أدى الى إنهاكهم وإضعاف حكمهم. في هذه الفترة بالذات كان الإمام الباقر عليه السلام هو الذي استلم زمام الإمامة بعد أبيه الإمام زين العابدين عليه السلام وفي تلك الفترة انشغل الأمويون بإخماد الثورات التي قامت ضدهم، مما جعل الرقابة على الإمام الباقر تضعف، فسمح بالتالي للإمام عليه السلام بجمع مجموعة من الأصحاب المخلصين من أجل أن يعلمهم ويزودهم بروايات النبي صلى الله عليه وآله لينشروها بين المسلمين، وكان منهم زرارة بن أعين و أبو بصير و بكير بن أعين و محمد بن مسلم.
وبعد وفاة الإمام الباقر عليه السلام تسلّم الإمامة بعده ولده الإمام الصادق عليه السلام، وكانت السلطة الأموية قد ضعفت أكثر وانحصر اهتمامها بالدفاع عن سلطتها، مما أعطى الامام الصادق عليه السلام الفرصة الذهبية الكبيرة فانطلق ينشر فقه آل بيت محمد صلى الله عليه وآله بين المسلمين كافة في المدينة المنورة حيث كان يقيم، وسرعان ما انتشر حديث الإمام عليه السلام وشاع ذكره بين المسلمين، فاندفعت إليه جموع الدارسين والباحثين عن المعرفة بالإسلام، حتى صار المرجع الأول بلا منازع على امتداد مساحة العالم الإسلامي، وصار الطلبة يأخذون عنه العلوم الدينية وغيرها أيضاً كما في علوم الطب والكيمياء والحساب.
وهكذا كانت المدينة المنورة النواة الأولى لنشوء الحوزة الشيعية الإسلامية، حيث ازدهرت فيها الحركة العلمية وتوافد إليها العلماء من كل أقطار الدولة الإسلامية آنذاك ليتلقوا العلوم على يد الإمام الصادق عليه السلام.
وقد قال إبن حجر عن الإمام الصادق عليه السلام: ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر حديثه في جميع البلدان، وروى عنه الائمة الأكابر، كيحي بن سعيد وابن جريج ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
بعد المدينة المنورة إنتقل الإمام الصادق عليه السلام إلى الكوفة لمدة من الزمن لأنها كانت من أكبر المدن الإسلامية آنذاك وكان فيها حركة تجارية ضخمة مما دفع بالكثير من المسلمين من مختلف البلدان للتردد عليها آنذاك، فوجد الإمام ان الانتقال إليها مفيد أكثر للحركة الفقهية ولنشر العلوم الإسلامية الاصيلة، وهكذا كان، ومن هنا يمكن القول بأن الكوفة هي المكان الأساس الذي انطلقت منه الحوزة الشيعية بقوة بعد النواة الأولى التي تأسست على يد الإمام الباقر عليه السلام في المدينة المنورة، فقد ورد عن الحسن بن علي بن زياد الوشاء أنه قال لإبن عيسى القمي إني أدركت في هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد عليه السلام.
وقد وصل عدد تلامذة الإمام الصادق عليه السلام على امتداد مراحل إمامته وقيادته للحركة العلمية أكثر من أربعة آلاف في شتى العلوم والمعارف.
ومن أبرز طلابه كان أبان بن تغلب و هشام بن الحكم و يونس بن عبد الرحمن و جابر بن حيان.
ويضاف إلى إنجازات الإمام الصادق عليه السلام هو تشجيعه على تدوين كتابة الأحاديث والروايات لأن مجرد الإعتماد على الذاكرة لا يشكل أساساً متيناً لحفظ التراث الإسلامي، مع ما فيه الحفظ من خطر النسيان أو التحريف والتزوير، وهكذا شرع طلاب الإمام الصادق عليه السلام بتدوين الحديث والسيرة حتى تحفظ من النسيان والتحريف، وقد قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة أن هناك مائتي رجل كتبوا الأحاديث التي سمعوها عن الإمام الصادق عليه السلام وحده، بينما وصل مجموع ما كتبه الرواة عن كل الأئمة عليهم السلام حوالي سبعماية وخمسين كتاباً .
ولم يقتصر دور الإمام الصادق عليه السلام على رواية الحديث فقط، بل تعداه إلى توضيح حقيقة الكثير من الأمور والأفكار الرائجة في ذلك الوقت كالقياس والاستحسان، فقد ورد عنه عليه السلام أنه قال في محاربة القياس: إن السنة اذا قيست محق الدين، إن أول من قاس إبليس عندما قال: خلقتني من نار وخلقته من طين.
وكذلك نرى أن الإمام الصادق عليه السلام دافع عن مفردات العقائد الإسلامية بعد شيوع المدارس العقائدية ما بين جبر وتفويض، فوقف الإمام موقفاً حازماً من هذه المسائل العقائدية وقال عليه السلام: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.
وكذلك وضعت مدرسة الصادقين عليه السلام الموازين للتمييز بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة بسبب الرواة الوضّاعين الكذابين، أو للتفاضل بين الاخبار المتعارضة المنقولة عن الأئمة للتمييز بين ما يعمل به وما لا يعمل به، وفي هذا يقول الإمام الباقر عليه السلام لزرارة بن أعين يا زرارة خذ ما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فقلنا يا سيدي: إنهما معاً مشهوران؟ قال: عليه السلام: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك، فقل: إنهما عدلان موثقان؟ قال عليه السلام: أنظر إلى ما وافق العامة فاتركه، وخذ بما خالف فإن الحق فيما خالفهم ...
وباختصار يمكن القول إن زمن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام هو الذي تأسست فيه الحوزة الإسلامية الشيعية، وخرجت نفسها على المسلمين جميعاً حتى صارت المرجع الأول والأساس في كل الحركة العلمية والعقائدية والفقهية والفكرية.
تشريع أصول استنباط الاحكام
ولم يقتصر دور الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام على نشر الحديث النبوي وتبيان الأحكام الفرعية فقط، بل عملوا على تأسيس نواة علم اصول الفقه لاستنباط الأحكام، والسبب في ذلك أن مساحة العالم الإسلامي الكبيرة وصعوبة الانتقال من البلاد المختلفة إلى المدينة أو الكوفة لأخذ العلم عن الإمامين عليه السلام كانت تستدعي وضع الأصول التي يمكن للرواة العدول والثقات منهم أن يطبقوها على مواردها عندما يسألهم الناس عن الحوادث المختلفة والإشكالات الشرعية التي يمرون بها، ولذا نجد أن هناك أحاديث عن الإمامين عليه السلام تتضمن قواعد فقهية أو أصولية مثل قاعدة الطهارة: كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس، والاستصحاب: ولا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك، ولكن انقضه بيقين مثله وقاعدة الضمان: على اليد ما أخذت حتى تؤدي.
وأصالة الحلية: كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه، وكذلك قواعد تقديم حديث على آخر في مقام الاستنباط .
وهذه القواعد سواء في المجال الفقهي أو الأصولي هي التي صارت فيما بعد - عندما تم تدوين العلوم- أساساً لعلمي الفقه والأصول اللذين هما عماد وركن الحوزات العلمية اليوم .
ومن هنا يمكننا أن نعتبر أن العلوم الدخيلة في الاجتهاد عند الفقهاء قد تكونت ركائزه الأولى في زمن الإمامين عليهما السلام، وصار أمراً واقعاً بعد بداية زمن الغيبة الكبرى حيث انتهى عندنا زمن النص وبدأ زمن الاجتهاد واستنباط الأحكام من القرآن الكريم والسنة النبوية وأحاديث المعصومين عليهم السلام.
وبقي الأمر على الحال الذي أسسه الإمام الباقر وابنه الإمام الصادق عليهما السلام إلى انتهاء زمن الغيبة الكبرى، حيث غاب الإمام المهدي الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه عن الأبصار إلى يوم الوقت المجهول عندنا والمعلوم عند الله سبحانه، ففي بداية تلك المرحلة صار الرجوع إلى العلماء هو الطريق الأوحد لمعرفة الناس أحكامهم الشرعية ، وصار الاعتماد على المراجع هو الأساس، مما أدى بالتالي إلى أن يصبح وجود الحوزات العلمية ضرورة لا بد منها من أجل تحصيل رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية للمكلّفين .
حوزة قم والري
مع بداية عصر الغيبة الكبرى انتقلت الحوزة العلمية إلى مدينتي قم والري وهي اليوم من ضواحي طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية، والسبب في الانتقال هو وجود علماء كبار من أهل قم والري كان لهم الأثر الكبير في انتقال الحوزة إلى هاتين المدينتين، مضافاً إلى الضغوطات التي كان يمارسها الخلفاء العباسيون ضد الشيعة والتشيع. وللدلالة على عظمة حوزة قم في تلك المرحلة نذكر ما نقله العلامة الحلّي في شرحه على كتاب من لا يحضره الفقيه حيث قال: إن في زمن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ـ مؤلف الكتاب ـ كان في قم من المتحدثين مائتا ألف رجل)، وقد كانت الحوزة في تلك المرحلة في ظل حكم البويهيين ـ آل بويه ـ الذين كانوا ميالين للشيعة ويوالون أهل البيت عليهم السلام. ومن العلماء البارزين من تلك الحوزة الشيخ الكليني و ابن بابويه والد الشيخ الصدوق، وقد تم تأليف كتب مهمة في جمع الأحاديث من تلك المرحلة من عمر الحوزة مثل كتاب الكافي وكتاب من لا يحضره الفقيه وهما من أمهات الكتب الحديثية عند الشيعة وما زالا إلى الآن مرجعين مهمين. ومن ضمن ما امتازت به الحوزة العلمية في قم و الري استعمالهم نفس الرواية كفتوى لمن يسأل عن حكمه الشرعي، وبمعنى آخر لم يكن البحث العلمي والتحليلي للفقه قد بدأ بعد تلك المرحلة من عمر الحوزة العلمية، وقد استمرت الحوزة في قم والري منذ بداية عصر الغيبة الكبرى في حدود أواسط القرن الثالث الهجري إلى بدايات القرن الخامس الهجري، زمن انتقال الحوزة إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية.
الحوزة في بغداد
وسبب انتقال الحوزة إلى بغداد كان لأمور عديدة من أهمها ضعف السلطة العباسية التي لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها في زمن هارون الرشيد والمأمون وسواهم وهذا ما أضعف من قدرتها على ملاحقة الشيعة. ومن موجبات الانتقال وجود علماء كبار في بغداد في تلك الفترة كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي شيخ الطائفة. ومن الأمور التي أوجبت الانتقال أن بغداد كانت عاصمة العباسيين والعالم الإسلامي، وكانت كل المدارس الفكرية والفقهية الإسلامية موجودة فيها، ولذا كان لا بد للفقه الشيعي من التواجد بعد زوال الأسباب التي كانت تمنعه من التواجد في بغداد إلى جانب كل تلك المدارس الإسلامية.
وقد تميزت الحوزة في بغداد بأن الفقه لم يعد مجرد عملية تدوين للحديث وجمعه وتبويبه، بل انتقل مع كبار العلماء الذين ذكرناهم إلى التحليل والاستنباط ووضع علم أصول الفقه كما في كتاب الوسيلة للشيخ الطوسي، وكتاب الذريعة للسيد المرتضى أستاذ الشيخ الطوسي قبل ذلك .
وأكبر دليل على تطور الحوزة الشيعية في هذه المرحلة هي مؤلفات كبار علمائها حيث تبرز التجديدات في البحث الفقهي والأصولي المشبع بالتحليل والمقارنة، ولم تعد الفتوى هي نفس نص الرواية، بل صارت الفتوى تصاغ صياغة علمية مرتكزة إلى الرواية المعتمد عليها كدليل للحكم المستنبط .
ومن إنجازات الحوزة في بغداد اعتمادها الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية، حيث إن الشيعة كانوا بحاجة لمقارنة فقههم بفقه المذاهب الأخرى لتبيان مواضع ومواطن قوة هذا الفقه في مواجهة الآخرين، وأنه فقه مستفاد من القرآن والسنة ويعتمد على الدليل الواضح والبرهان القاطع، وقد برع الشيعة في هذا المجال كثيراً. ومن أهم كتب الفقه المقارن في تلك المرحلة كتاب الخلاف للشيخ الطوسي.
وللشيخ الطوسي رحمه الله نص مهم يلقي الضوء على الصراع بين الحوزة الشيعية والمدارس الفكرية الإسلامية الأخرى يقول فيه: إني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفون بفقه أصحابنا الإمامية وينسبونهم الى قلة الفروع وقلة المسائل، ويقولون إنهم أهل حشو ومناقضة، وأن من ينفي القياس والإجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع ولا الأصول، لأن جلّ ذلك مأخوذ من هذين الطريقين. وهذا جهل منهم بمذهبنا وقلة تأمل بأصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول النبي صلى الله عليه وآله إما خصوصاً أوعموماً أو تصريحاً أو تلميحاً.
والإجتهاد هنا بمعنى أن يفتي الفقيه برأيه الخاص إذا لم يجد دليلاً شرعياً على الحكم الشرعي، وليس الإجتهاد هنا بمعنى بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة في الكتاب والسنة وحديث المعصومين عليهم السلام.
إنتقال الحوزة إلى مدينة الحلة في العراق
يمكن القول إن الحوزة في بغداد قد سلكت الطريق المفروض في عملية التحليل الفقهي والأصولي وكانت بدايات الكتابة الأصولية قد تحققت فيها على يد السيد المرتضى وتلميذه الشيخ الطوسي، وتوسّع إطار البحث الفقهي وتفريعات المسائل وما إلى ذلك، وكانت الأمور تسير على ما يرام، إلى أن حدث الاجتياح المغولي لبغداد الذي دمرها وأحرق مكتباتها وأزهق أرواح أهلها، مما دفع بالكثير من سكان بغداد إلى النزوح عنها والهرب إلى البلدان التي لم تصلها جيوش المغول، وكانت مدينة الحلة قد طلبت الأمان من المغول وحصلت عليه، فعاش أهلها في أمان وسلام، مما دفع بالعلماء والمجتهدين إلى الذهاب لتلك المدينة، وانتقلت معهم الحركة العلمية أيضاً، إلى أن صارت الحلة هي المركز البديل للحوزة العلمية عند الشيعة، ونبغ منها علماء كبار سطّروا أسماءهم بين علماء الطائفة الأعلام من أمثال العلامة الحلي والمحقق الحلي و إبن إدريس والسيد ابن طاووس و الشهيد الأول وغيرهم كثير .
وقد سارت الحوزة في الحلة على خطى حوزة بغداد، ولكن مع تركيز أكثر في البحث التحليلي ومع توسعة في علم الأصول، وبتبويب الفقه إلى فقه العبادات والمعاملات كما فعل المحقق الحلي الذي لا زال تقسيمه الفقهي متداولاً إلى الآن في كل الكتابات الفقهية لمراجعنا العظام بدءاً من الطهارة إلى الديات.
عبر كل هذه المراحل وصلت الحوزة الشيعية إلى مركز مرموق وصارت المرجع الأول والأساس لشيعة أهل البيت عليهم السلام على مستوى كل قضاياهم الفقهية والعقائدية، ومع كل مرحلة كانت الحوزة تخطو خطوات كبيرة إلى الإمام كما رأينا مع تسلسل المراحل من عمرها .
وبقيت الحوزة على هذا المنوال من التطور في حركة الإجتهاد والاستنباط، وصار لأصول الفقه علم خاص به يهتم بالقواعد المشتركة في عملية إصدار الحكم الشرعي، مع تمييزقواعد علم الفقه عن علم الأصول وتميز الفوارق بين العلمين، وهذا ما دفع بعلماء الحوزة إلى الاهتمام بعلم الأصول اهتماماً كبيراً لأنه يعتمد على القواعد الكلية التي يستند إليها الفقيه في استنباط الأحكام مثل قاعدة الأمر يدل على الوجوب و النهي يدل على الحرمة و قاعدة العموم و الإطلاق ومثل قواعد الإستصحاب و البراءة و الإحتياط و التخيير وغير ذلك .
الحركة الإخبارية
ولكن مع تقدم الحركة الأصولية في الحوزات العلمية الشيعية ظهرت في مواجهة ذلك الحركة الإخبارية والتي تعني أن يعتمد الفقيه في عملية استنباط الحكم على مجرد الأخبار دون قواعد علم الأصول، لأن الاعتماد في نظر جماعة الإخباريين على قواعد علم الأصول يؤدي إلى الابتعاد عن العمل بالنصوص الشرعية الواردة عن الائمة، مع أن العمل بالنصوص الشرعية والإفتاء بواسطتها مباشرة كان هو الأسبق من الإفتاء عبر الاعتماد على علم الأصول، ويضاف إلى الأسباب التي جعلت الإخباريين يحاربون علم الأصول أن هذا العلم مشترك بين الشيعة والسنة وهذا ما قد يؤدي إلى تشويش وإرباك للفقه الشيعي، وبما أن علم الأصول كان حديثاً بالنسبة الى علم الفقه وبالنسبة إلى الإفتاء عبر الإستناد إلى الروايات فقد تمكن الإخباريون من إيقاف تطور علم أصول الفقه، وإعادة الإعتبار للإفتاء عبر الاستناد إلى الأخبار مباشرة، وقد استدل رائد الحركة الإخبارية وهو المحدث الأسترابادي على صحة مقولته بما يلي: إن الإتجاه الإخباري كان هو الإتجاه السائد بين فقهاء الإمامية إلى عصر الكليني والصدوق، ولم يتزعزع هذا الإتجاه إلا في آواخر القرن الرابع وبعده حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الإخباري ويعتمدون على العقل في استنباطاتهم ويربطون البحث الفقهي بعلم الأصول تأثراً بالطريقة السنية في الإستنباط، ثم أخذ هذا الإنحراف بالتوسع والانتشار.
وقد تميز عصر سيطرة الإخباريين بتأليف الموسوعات الكبرى من كتب الحديث ومن أهمها على الإطلاق ـ كتاب بحار الأنوار ، وكتاب الوسائل للحر العاملي وكتاب الوافي للفيض الكاشاني، وهذا ما ساعد أيضاً على إضعاف التوجه في الحوزات للإعتماد على علم الأصول في مقام استنباط الأحكام الشرعية .
إنحسار الموجة الإخبارية وإعادة الإعتبار لعلم الأصول
دامت سيطرة الموجة الإخبارية من أوائل القرن الحادي عشر الهجري الى أوائل القرن الثالث عشر، حيث ظهرت الحركة الأصولية من جديد وكان على رأسها المجدد الكبير الشيخ محمد باقر البهبهاني الذي تصدى للحركة الإخبارية، وكان مركز الصراع بين الإتجاهين هو مدينة كربلاء التي كانت مركز الثقل العلمي عند الشيعة في تلك المرحلة، وقد استطاع البهبهاني الحد من التوجه الإخباري وإعادة الإعتبار لعلم الاصول وقواعده العامة، وذلك من خلال الإحتكاك العلمي بين التوجهين حيث انتصر الأصوليون بقوة أدلتهم على الإخباريين، ولأن التوجه الإخباري قد استنفذ وسائل قوته عبر تأليف الموسوعات الحديثية الكبرى التي ذكرناها، ولأن علم الأصول دخلت عليه عناصر جديدة لم تكن معروفة سابقاً مثل علم الفلسفة الذي أعطى للأصول قوة إضافية في البحث والتحليل العلمي جذبت الكثير من العلماء والطلاب حتى لم يعد للتوجه الإخباري أنصار أقوياء للدفاع عنه، وبهذا انتهى الصراع بينهما لصالح الإتجاه الذي صار المعتمد الأساس عند الشيعة في مقام استنباط الأحكام ، وهو الإتجاه الذي لا يزال معتمداً في حوزاتنا حتى عصرنا هذا.
إنتقال الحوزة الدينية الى النجف الأشرف
وهنا ليس لدينا سبب واضح على انتقال الحوزة العلمية إلى النجف، لكن يمكن أن نقول بأن هجوم الحركة الوهابية على كربلاء في أواسط القرن الثالث عشر كان من العوامل المساعدة على انتقال الحوزة إلى النجف بجوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام، واستمرت إلى هذا الزمن المعاصر، وتحديداً إلى حين انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران. فالانتقال إلى النجف واستقرار الأوضاع فيها بشكل عام، أعطى للحوزة دفعاً جديداً وتجسّد ذلك بالأبحاث الفقهية والأصولية المعمقة، ونبغ من تلك الحوزة أكبر علماء الشيعة بعد الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة والمحقق الحليين، ويكفي أن نذكر من نوابغ الحوزة في النجف: الشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ أسد الله التستري و المولى أحمد النراقي و الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر في الفقه و الشيخ الانصاري صاحب كتاب الرسائل والمكاسب اللذين يدرّسان حتى الآن في الحوزات العلمية، و المحقق الأخوند صاحب كتاب كفاية الأصول الذي لا زال الكتاب المعتمد في الدراسات الأصولية العليا في الحوزات. وقد لعبت الحوزة في النجف دوراً مهماً في مسيرة علمي الفقه والأصول عند الشيعة وتوسعت حركة الإجتهاد وتطورت كمّاً ونوعاً ووصل علم الأصول إلى ذروته في استنباط القواعد والأصول العامة، وكذلك علم الفقه الذي كان يواكب عصر النهضة العلمية ويعطي المجالات المعرفية التي وصل إليها البشر في عصر نمو العلم والتكنولوجيا والتطور.
إنتقال الحوزة إلى مدينة قم المقدسة
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتضييق النظام العراقي الشديد على الحوزة العلمية في النجف حدثت حركة هجرة ونزوح للعلماء والطلاب من النجف إلى قم، حتى صارت هي مركز الثقل للحوزة الشيعية في العالم الإسلامي، وتقاطر عليها طالبو العلوم الدينية الشيعية من كل أقطار العالم، خصوصاً أن النظام في إيران هو وليد الحوزة والمؤتمر بفتاوى مراجعها، وحاكمها هو ولي أمر المسلمين الذي ينبغي أن يكون مجتهداً على الأقل، أو مرجعاً دينياً كما كان الأمر مع الإمام الخميني الراحل قدس سره.
فإسلامية النظام وشيعيته بالتحديد أعطى للحوزة عناصر الأمان والإستقرار، وفتح المجالات أمام الحوزة للاستفادة من إمكانات الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي افتقدته الحوزة الشيعية منذ مراحل تأسيسها في زمن الأئمة وحتى المرحلة الأخيرة ما قبل انتقالها إلى قم المقدسة، وهذه الإمكانات أعطت للحوزة وعلمائها ومراجعها الفرصة لإخراج التراث الشيعي من حالة الإهمال الى الإعتناء به ونشره وتطويره، بحيث يمكن القول اليوم إن الحوزة العلمية في قم هي محط أنظار المسلمين جميعاً لما تشهده من نهضة علمية شاملة، ولا نغالي في القول بأنها أكبر حوزة علمية على امتداد ومساحة العالم الإسلامي، ومنها تنطلق اليوم الإشعاعات الحضارية لفقه اهل البيت عليهم السلام، ذلك الفقه الذي بقي محصوراً في إطار الشيعة فقط بسبب المضايقة التي كان يتعرض لها الشيعة وحوزاتهم وعلماؤهم على يد السلطات عبر تاريخ الإٍسلام الطويل .
هذا هو بنحو الإختصار تاريخ الحوزة العلمية عند الشيعة، وهو كما نرى تاريخ مليء بالجهاد والصراع من أجل الوجود تارة، ومن أجل حماية الشيعة تارة أخرى، أو من أجل محاربة التوجهات التي حاولت تحريف الفكر الإسلامي ثالثاً، أو لمحاربة الأفكار غير الإسلامية عبر الرد عليها بما يمنع من تأثيرها على المسلمين .
وقد عانت الحوزة عبر تاريخها الكثير من الويلات والمصائب، واعترضتها المخاطر الكبيرة وقدمت التضحيات الكثيرة من كبار العلماء الذين سقطوا شهداء للحوزة عبر التاريخ كالشهيد الأول والشهيد الثاني، وهما من أكبر علماء جبل عامل على الإطلاق، والشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر نابغة عصره وزمانه والذي قلّ نظيره في العالم الإٍسلامي.
ستبقى الحوزة العلمية عند الشيعة الملاذ والحصن والسور المنيع الذي يصد الهجمات على الإٍسلام بشكل عام والتشيع بشكل خاص، وستبقى منارة للهدى والصلاح، وستبقى النور الذي يضيء الطريق للتائهين والباحثين عن الحقيقة ، لأن الحوزة هي صوت الحق والعدل الإلهيين، ذلك الصوت الذي لن يسكت حتى يظهر صاحب العصر والزمان الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأها الظالمون ظلماً وجوراً. 2
- 1. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 122، الصفحة: 206.
- 2. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ: السبت, 15 شباط/فبراير 2014.