الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
نظرية الاجتهاد
من النظريات التي أتبناها وأدافع عنها، نظرية أن الاجتهاد بإمكانه أن يقوم بذات الوظائف النقدية والمعرفية والتجديدية التي تقوم بها الحداثة في نطاق الفكر الغربي. وهذا يتوقف على طريقة فهمنا وتعاملنا مع مفهوم الاجتهاد، الذي بحاجة إلى إعادة اعتبار، وإلى إحياء جديد، ليكون في المستوى الذي يؤهله لأن ينهض بوظائفه المعرفية المختلفة. وباستكشاف مكونات هذا المفهوم ودلالاته، تتأكد لنا قيمته وأهميته، وتميزه فرادته أيضاً، وضرورة الانفتاح عليه والتواصل معه. ومن مكونات هذا المفهوم:
أولاً: إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع، وبذل أرفع مستويات الجهد الفكري والعلمي والبحثي في مجالات دراسة الأفكار والمفاهيم والنظريات والأحكام، وبالشكل الذي يفترض أن يحقق قدراً من الاكتشاف والابتكار والتجديد. وهذا ما يدل عليه، وما نستفيده من المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة الاجتهاد. فالاجتهاد لا يصدق دلالة ومضموناً إلا بعد استكمال شرائط البحث، وإعمال النظر بالطرائق والأدوات المنهجية والمعرفية، وبما يوفر الإحاطة التامة قدر الإمكان، وبما يوفر أيضاَ الاطمئنان النفسي والعلمي والمنهجي.
والحداثة إنما بدأت في الغرب من مقولة الانتصار للعقل، وإعلاء شأنه، والتمحور حوله، وحسب رؤية آلان تورين فإن فكرة الحداثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقلنة والتخلي عن إحداهما يعني رفض الأخرى.
ثانياً: التحريض المستمر والدؤوب على البحث العلمي والمعرفي. فالاجتهاد هو دعوة نحو مضاعفة الجهد العلمي بلا انقطاع أو توقف، وإنما بتواصل وتراكم. وهو صياغة ذهنية يفترض أن يتولد منها فعل الاجتهاد بصورة مستدامة، لا تتهاون في تحصيل العلم والمعرفة.
والتقدم ما هو إلا حصيلة تراكمات العلم واستخداماته في مجالات الحياة المختلفة. والحداثة التي ربطت العلم بالتقدم، هذا الربط نتوصل إليه من خلال مفهوم الاجتهاد الذي هو انتصار للعلم بما يحقق التمدن والعمران الإنساني من غير تصادم وتعارض مع القيم والأخلاق. وقد جسد علماء المسلمين هذا النشاط الدؤوب في تعاملهم مع العلم والبحث العلمي، في التحصيل والتعليم، وفي البحث والتحقيق، وفي الكتابة والتأليف، وتحملوا في سبيل ذلك التعب والسهر والمرض والسفر، وكانوا قدوة في العلاقة مع العلم.
ثالثاً: مقاومة عناصر الجمود والتفكير السطحي والنظر القشري والاعوجاج والشلل الفكري، وهذه الحالات هي من أشد ما يناقض ويعارض مفهموم الاجتهاد. وما ظهرت هذه الحالات وتفشت إلا في زمن التراجع الحضاري الذي أصاب حركة الاجتهاد بالجمود والانغلاق والتوقف نسبياً.
من جهة أخرى فإن الاجتهاد يفترض تعاملاً مع النص يتصف بشدة الفحص وتعمق النظر، وبصورة دائمة ومستمرة مما يجعل النص مفتوحاً للمعنى في كل زمان ومكان وحال، وبشكل يتعارض مع احتكار الفهم على طبقة أو جيل من الناس، أو أن يتحدد الفهم في زمان أو مكان ما، فليس في الإسلام كهنوتية أو أرثذوكسية تفرض فهماً أو معرفة جامدة أو نمطية أو أحادية.
رابعاً: مواكبة تجددات الحياة، ومتغيرات العصر، وتحولات الزمن، ومقتضيات التقدم، وشرائط المستقبل. فالاجتهاد مجالاته القضايا والموضوعات الجديدة والمعاصرة. ولا معنى للاجتهاد في نظر بعض الفقهاء المعاصرين بالانشغال بالقضايا والموضوعات التي ترتبط بالماضي، أو التي أشبعها السلف بحثاً ونظراً، أو التي استقر عليها رأي السلف. ذلك لأن الاجتهاد هو منهج الإسلام العلمي في تطبيق الأصول على الفروع، وإرجاع الفروع إلى الأصول، من خلال علاقة منهجية منضبطة ومتوازنة من جهة المنهج، وفي علاقة دائمة ومتحركة من جهة الواقع.
لا شك أن هذه الدلالات تعطي قيمة متعاظمة لمفهوم الاجتهاد، تؤكد الحاجة إليه في هذا العصر، فالاجتهاد هو ثورة في التفكير، ودعوة للتقدم1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 13927.