مجموع الأصوات: 0
نشر قبل 17 ساعة
القراءات: 32

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

في البحث عن الروح الثقافية

لقد عرف عن الأدباء والمفكرين المصريين المعاصرين، غزارة وثراء الكتابة والتأليف في المجالات والميادين التي اعتنوا وتخصصوا فيها، وعنايتهم بهذا الشأن كانت تثير الدهشة والإعجاب، بوصفها جاءت بشكل غير مألوف ومعهود عند الآخرين في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، وبطريقة كشفت عن تميز تعلقهم بالأدب والمعرفة والثقافة، وتفوقهم من هذه الناحية على غيرهم في المجتمعات الأخرى، وجعلت منهم طلائع ورواد الأدب والمعرفة والثقافة في العالم العربي.
واللافت في الأمر أن هذه الروح الثقافية المتوثبة، وهذا النشاط الفكري الدؤوب، ظل ينتقل من جيل إلى آخر، فمن جيل العقاد وطه حسين وأحمد أمين ويوسف كرم وعبد الرزاق السنهوري، وهو الجيل الذي فارق الحياة ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين، إلى جيل عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وجمال حمدان ونجيب محفوظ وشوقي ضيف، وهو الجيل الذي فارق الحياة في التسعينات وما بعدها، إلى جيل الأحياء مثل عبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة وحسن حنفي وآخرين، فكل واحد من هؤلاء صدرت له عشرات المؤلفات، ومن بينها موسوعات متخصصة، مثل موسوعة (الوسيط في شرح القانون المدني) للدكتور عبد الرزاق السنهوري التي صدرت في عشرة أجزاء ما بين عام 1954م إلى عام 1970م، وموسوعة (شخصية مصر) للدكتور جمال حمدان التي جاءت في أربعة أجزاء وأكثر من أربعة آلاف صفحة، واستغرق العمل فيها عشر سنوات، إلى موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية) للدكتور عبد الوهاب المسيري التي صدرت في ثمانية أجزاء وما يقارب أربعة آلاف صفحة، واستغرق العمل فيها ربع قرن من سنة 1976م إلى سنة 1998م.
وهؤلاء الذين قدموا هذه الأعمال الجليلة والخالدة، إنما لأنهم أمضوا حياتهم، وأفنوا سنين عمرهم في خدمة الثقافة والمعرفة، وعاشوا حياة بسيطة، وبعيدة عن الرفاه المفرط، وتكبدوا المعاناة في هذا السبيل، وظلوا يقاومون المرض الذي اعترض حياتهم، وأقعد بعضهم ولم يقعد بعضهم الآخر، فقد اقعد الدكتور السنهوري الذي داهمه المرض بعد الانتهاء من الجزء العاشر والأخير من كتاب (الوسيط)، وتوفي بسببه سنة 1971م، ولم يقعد الدكتور المسيري الذي أصابه المرض بعد الانتهاء من موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية)، وما زال يقاومه ولم يتوقف عن الكتابة والتأليف.
وقد مثل هؤلاء الوجه المشرق واللامع إلى مصر، وأضافوا لها أهرامات جديدة لكنها ليست من الحجر والصخور مثل أهرامات الجيزة التاريخية، وإنما من الأدب والمعرفة والثقافة، وبسببهم تفوقت مصر ثقافياً على العالم العربي، وكان لها أكبر تأثير ثقافي على المجتمعات العربية، وظلت تمثل الروح الثقافية للعالم العربي.
والسؤال الذي يعنينا هو كيف اكتسب هؤلاء هذه الروح الثقافية التي جعلت من الثقافة الفضيلة العليا في حياتهم، وكانت منسكهم وعشقهم وتصوفهم؟ وكيف نكتسب نحن مثل هذه الروح الثقافية؟ وهل بإمكاننا أن نغير حياتنا واهتماماتنا ونمط العيش عندنا في سبيل اكتساب هذه الروح الخلاقة؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا، ونحن نتأمل واقعنا الثقافي بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؟ وإذا أردنا أن يظهر عندنا أمثال أولئك؟ فهل بالامكان أن يظهر عندنا العقاد أو عبد الرحمن بدوي أو زكي نجيب محمود أو غيرهم؟ وإذا ظهروا عندنا فهل سنعطيهم منزلة العقاد أو غيره؟.
إن التفكير بالثقافة وتطويرها وتجديدها بحاجة إلى رجال يبعثون الروح الثقافية، الروح التي تتجلى في حضورهم وحياتهم، وتشع في كلماتهم وأعمالهم، وتتخلق في سلوكهم وعلاقاتهم، وما ينبغي أن نلتفت إليه هو كيف نشعر بوجود هؤلاء متى ما ظهروا عندنا؟ فقد يظهر عندنا أمثال هؤلاء ولا نشعر بهم، وقد يشعر بهم غيرنا ولا نشعر نحن بهم، ونلتفت لهم متأخرين أو بعد غيابهم، ويذهبون وتبقى الحسرات!1

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 15003.