الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

فاطمة الزهراء في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌ وآله‌ وسلم

إنّ ركائز الفرد الروحية والأخلاقية تستند الىٰ بوادر تربيته وبيئته وبيته الذي نشأ فيه ، وكان منبت الصديقة الزهراء عليها‌السلام في أول بيت حمل لواء الإسلام ونشر راية التوحيد ونادىٰ بمكارم الأخلاق ، وهو البيت الذي وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة : « ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرىٰ نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوة... » 1.

فعميد البيت هو النبي العربي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو القاسم محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي ، الذي وصفه تعالىٰ بقوله : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ 2 ونعته قومه وهم في غياهب جاهليتهم بالصادق الأمين ، واختصه الله تعالىٰ بالوحي والكتاب الكريم ، وشرّفه بشرف الرسالة ، وشرح صدره بأنوار المحبة واللطف والكرامة.

هـو الحبيب الذي ترجىٰ شفاعته          لكلِّ هول من الأهوال مقتــــــحمِ

دعـــــا إلىٰ الله فالمستمسكون به          مستمسكون بحبلٍ غيـر منــــــفصمِ

فاق النبيين فـي خَلْــق وفي خُلُق          و لم يدانوه في عـــلمٍ ولا كــــــــرمِ
وكلّـــهم من رسول الله ملتمس          غرفاً من البحر أو رشفاً مـن الديمِ

فهــــو الذي تمّ معنــــاه وصورته          ثـم اصطفاه حبيباً بارىء النســــمِ

منــــزّه عن شــــريك في محاسنه         فجـــوهر الحســــــن فيــه غير منقسمِ 3

أما سيدة البيت أُمّ الزهراء عليها‌السلام فهي أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزىٰ بن قصي جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوسط نساء قريش نسباً ، وأعظمهن شرفاً ، وكانت تدعىٰ في الجاهلية الطاهرة 4 لشرفها وعفّتها ، وقد نشأت في بيت معروف بالمكانة واليسار والنفوذ والشرف في قريش.

كان جدها أسد بن عبد العزّىٰ واحداً من أعضاء حلف الفضول ومؤسسيه والدعاة إليه ، وهو الحلف الذي بموجبه تعاقدت قبائل من قريش وتعاهدت علىٰ أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا نصروه ، وكانوا علىٰ من ظلمه حتىٰ تردّ مظلمته ، وهو الحلف الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أن لي به حمر النعم ، ولو أُدعىٰ به في الإسلام لأجبت » 5.

وكان ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد من الأربعة الذي تنسكوا واعتزلوا عبادة الأوثان ، وهجروا قومهم فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم عليه‌السلام 6.

وقد تزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام قبل البعثة بنحو خمسة عشر عاماً ، فلمّا بُعِث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاها إلىٰ الإسلام ، فكانت أول امرأة آمنت بدعوته ، وبذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة ، فكانت أموال خديجة ثالث أثافي دعوة الإسلام بعد تسديد العناية الإلهية لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية أبي طالب عليه‌السلام عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرته ومؤازرته.

ثم انها قد اجتباها الله تعالىٰ لكرامة لا توصف نالت بها سعادة الأبد ، وذلك بأن منّ الله تعالىٰ علىٰ الإسلام بأن حفظ في نسلها ذرية الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أُمّ آل البيت الكبرىٰ ، الذين كانوا نفحةً من عطر شذاه ، وقبساً من سنا نوره ، إذ انحصرت في ابنتها الزهراء عليها‌السلام نسبة كل منتسب إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعظم بها من مفخرة !

وتوفيت خديجة عليها‌السلام في السنة العاشرة من المبعث الشريف بعد خروج بني هاشم من الشعب 7، أي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين ، وذلك بعد أن عاشت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو ربع قرن كانت فيها أُمّ عياله وربة بيته ومؤازرته علىٰ دعوته ، ولم يتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة في حياتها قط إكراماً لها وتعظيماً لشأنها بخلاف ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتها.

وقد جاء في فضلها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية امرأة فرعون » 8.

ولم ينس ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ في أواخر حياته كما في قول عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتىٰ يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام ، فأخذتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلّا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب حتىٰ اهتزّ مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً دون غيرها من النساء » قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بعدها بسبّة أبداً 9.

وفي هذا النص دليل واضح علىٰ أفضليتها عليها‌السلام علىٰ سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها أحبهن الىٰ قلبه الشريف.

ففي هذا البيت الذي اختاره الله سبحانه مهبطاً للوحي ومقراً للنبوة لتبليغ رسالته والانذار بدعوته ، ولدت ونشأت وترعرت الزهراء عليها‌السلام بين أقدس زوجين في ذلك العالم الذي يلفّه الظلام والضلال ، فكان البيت بما يحتويه من عميده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجته خديجة الكبرىٰ ، وابن عمه الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وابنته الطاهرة الصديقة ( سلام الله عليهم أجمعين ) هالةً من النور وبيرقاً للهداية ، وماهي إلّا سنين قلائل حتىٰ تبدّدت سحب الضلال بنور الإيمان ، وشملت راية التوحيد أمُّ القرىٰ وماحولها.

قال الشاعر :

شبت بحجر رسول الله فاطـــمة         كــــــــما تحـبّ المعالي أن تلاقيها

وفي حمى ربّة العليا خديجة قــــد          نشت كما الطهر والآداب تشهيها

ونفسها انبثقت من نفس والدها          و أُمّــــــها فهـي تحكيـه ويحكيها 10 11

  • 1. نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٣٠٠ الخطبة (١٩٢).
  • 2. القران الكريم: سورة القلم (68)، الآية: 4، الصفحة: 564.
  • 3. الأبيات من قصيدة البردة للبوصيري ، المتوفىٰ سنة ٦٩٦ ، راجع المجموعة النبهانية / النبهاني ٤ : ٥ ، دار المعرفة.
  • 4. أُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٤٣٤ ، دار إحياء التراث العربي.
  • 5. سيرة ابن هشام ١ : ١٤١ ، مطبعة البابي الحلبي ـ مصر.
  • 6. سيرة ابن هشام ١ : ٢٣٧.
  • 7. الإصابة / ابن حجر ٤ : ٢٨٣ ، دار إحياء التراث العربي.
  • 8. مستدرك الحاكم ٣ : ١٨٥ حيدر آباد ـ الهند. وكنز العمال / المتقي الهندي ١٢ : ١٤٤ / ٣٤٤٠٦ ، مؤسسة الرسالة.
  • 9. الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٢٨٧ بهامش الاصابة. الاصابة ٤ : ٢٨٣.
  • 10. الأبيات من القصيدة العلوية للشاعر عبدالمسيح الأنطاكي : ٩٥ ـ مصر.
  • 11. المصدر: كتاب سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام، للدكتور علي موسى الكعبي.