مجموع الأصوات: 64
نشر قبل 7 سنوات
القراءات: 8654

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الارتياب وتدمير العلاقات

انطباعات الانسان عن الآخرين، ورؤيته لهم، تؤثر على علاقته بهم، وتعامله معهم. فالانطباع الجيد عن شخص يشكل ارضية للاقتراب منه، وصنع العلاقة معه، بينما الرؤية السلبية تجاه اي شخص تخلق حاجزا نفسيا يحول دون الثقة به والانفتاح عليه، وربما تتطور الى دافع للخلاف والعداوة.

وتتشكل انطباعات الانسان عن الآخرين من خلال ما يسمعه او يلحظه من مواقفهم وتصرفاتهم.
بيد ان كل موقف او ممارسة تصدر من احد غالبا ما تحتمل اكثر من تفسير ايجابي وسلبي فحتى الاعمال المصنفة ضمن قائمة الاعمال الصالحة، يمكن التشكيك في دوافع وبواعث القيام بها، فتكون مصدرا لانطباع سييء.
ولان الانسان ليس له سبيل الى القطع والجزم بنوايا الآخرين، ولا يعلم على وجه اليقين دوافع وملابسات كل مواقفهم وتصرفاتهم، فان التفسيرات والانطباعات التي تنقدح في ذهنه عنهم تبقى مجرد ظنون واحتمالات.
فالتفسير الايجابي ينتج ظنا حسنا بينما التفسير السلبي يعني ظنا سيئا وهكذا تتراوح انطباعات الانسان عن الآخرين بين حسن الظن وسوء الظن.
ان حسن الظن يمنح الانسان رغبة واندفاعا نحو الآخرين، ويجعله اكثر قدرة على صنع العلاقات معهم، وعلى العكس من ذلك فان سوء الظن يخلق نفورا من الآخرين وتحفظا تجاههم، وقد يكون مدخلا الى العداوة والخصام.
يقول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب: «من لم يحسن ظنه استوحش من كل احد ومن حسن ظنه بالناس حاز المحبة منهم».

الارتياب كمسلك

الارتياب من الريب، وهو بمعنى الشك مع التهمة بان يشك الانسان في نوايا الطرف الآخر، ويتهمه بسوء في مقاصد اعماله وتصرفاته وهذا الشك والاتهام انما يحصل في نفس الانسان لانه يعلم بوجود النزعات الشريرة ويدرك ان بعض المظاهر البراقة قد تخفي وراءها اهدافا خبيثة، وبالتالي فهو لا يستطيع ان يخدع نفسه وينظر الى جميع الامور والتصرفات ببراءة وثقة.
وحتى لو قرر انسان ان يكون بسيطا ساذجا يتعامل مع الجميع بثقة واطمئنان دون اي حذر او شك، فانه سيتعرض لصفعات ونكبات من بعض من منحهم ثقته، تجعله يعيد النظر في ثقته المطلقة بالناس.
اذا فليس المطلوب من الانسان ان يكون ساذجا لا ياخذ الاحتمالات الاخرى بعين الاعتبار وحتى لو طلب منه ذلك فهو غير ممكن لان ورود الخواطر والظنون على ذهن الانسان ليس امرا اختياريا.
لذلك ذهب اكثر العلماء المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ... 1 الى ان المراد بالاجتناب عن الظن: الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأن يظن باخيه المؤمن سوءا فيرميه به، ويذكره لغيره ويرتب عليه سائر آثاره، واما نفس الظن بما هو نوع من الادراك النفساني فهو امر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلايتعلق به النهي، اللهم الا اذا كان بعض مقدماته اختياريا.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في ان يصبح الارتياب وسوء الظن مسلكا عاما للانسان، بحيث ينظر الى كل الناس بنظارة سوداء، ويشك في كل احد وكل شيء.
وهي حالة مرضية يصاب بها البعض فيفقد الثقة فيمن حوله، وقد تتفاقم هذه الحالة فيسيئ الظن حتى في ربه وخالقه كما يحدثنا القرآن الكريم عن بعض المشركين والمنافقين: ﴿ ... الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ... 2.
وتحدثنا الروايات عمن ساورتهم الظنون السيئة تجاه رسول الله وهو اقدس واطهر انسان من البشر، اخرج البخاري في كتاب الصلح حديث رقم 2708 عن عروة بن الزبير: ان الزبير كان يحدث: انه خاصم رجلا من الانصار قد شهد بدرا، الى رسول الله في شراج من الحرة ـ اي مسايل الماء في المدينة ـ كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله للزبير: «اسق يازبير ثم ارسل الى جارك» فغضب الانصاري فقال يارسول الله ان كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله.

الانطلاق من سوء الظن

اسوأ ما في الارتياب انه يصبح مدخلا ومعبرا الى التجاوزات العدوانية على الآخرين فهو قد ينتج فتورا في العلاقة او قطيعة تامة، كما قد يتحول من مجرد ظن وارتياب داخل نفس الانسان الى افتراء على الجهة التي تعلق بها، حيث يشيع الانسان ظنونه وشكوكه لدى آخرين، وبالتالي فانه ينال من سمعة ذلك الطرف، ويشوه شخصيته ويصنع عليه جوا من الدعاية المضادة، كل ذلك اعتمادا على ظن مجرد ودون اثبات او دليل، فيجد الطرف الآخر نفسه في قفص الاتهام محاطا بالشكوك والتساؤلات وكما قال الشاعر:
قد قيل ما قيل ان صدقا وان كذبا *** فما اعتذارك من قول اذا قيلا
وقد تتطور الامور الى اكثر من ذلك اعتداء واساءة ونزاعا وفتنة لذلك تؤكد التعاليم الاسلامية على اجتناب سوء الظن وعدم جواز ترتيب اي اثر عليه في التعامل مع الآخرين.

الانفتاح والمصارحة

ماذا يفعل الانسان اذا الح على قلبه ظن سلبي تجاه انسان آخر؟ وكيف يستطيع ان يواجه ذلك الخاطر السيء؟
قد يصعب عليه تجاهل شك سيطر على ذهنه وهو في ذات الوقت لا يرغب في الاستمرار مع مفاعيل الظن السوء.
ان الوعي السليم والتفكير الموضوعي يفرض على الانسان هنا الانفتاح على الشخص المعني ومصارحته بما يدور في نفسه حوله، لاعطائه الفرصة لتوضيح موقفه، ان كان له مبرر او مسوغ وتشجيعه على التراجع عن خطئه ان كان مخطئا.
يقول المفكر (الفرنسي روجيه) ميل: «انني لا استطيع اجتناب الشك، مادام كل انسان يتميز، اول ما يتميز، بواقع انه حامل سر لولاه لما تحلى بوجود صميمي اطلاقا. وينجم عن انني انا نفسي مما يمكن ان يطاله الشك، ولذا فانني لا استطيع الا اشك في الآخرين. فما السبيل الى الخلاص من هذا الدرب المسدود؟ ليس ثمة غير سبيل واحد: سبيل الاعتراف للآخر بالشك الذي ينتابني بصدد قوله وعمله. وهذا الاعتراف بالشك يستطيع وحده اعادة الحوار ومنحه صحة وصدقا. ولا شيء ينم عن احترام الشخص الانساني مثل ان يقال له: احسب انك.. ذلك انني اسلم نفسي على هذا المنوال الى الآخر، واعترف بدوري بأنني موضع ارتياب ممكن ايضا. وهذا يكفي حتى نبلغ كلانا درجة صدق اسمى».
ما احوجنا الى الشفافية والوضوح، وان يكون الانفتاح والمصارحة هو السبيل لمعالجة تحفظاتنا واشكالاتنا على بعضنا بعضا، بدل ان نعيش في ظل اجواء ملبدة بغيوم الشكوك والظنون، وان تتضرر علاقاتنا الاجتماعية 3.