وصايا الامام جعفر الصادق لعنوان البصري
قال عُنْوَانُ البَصري 1 : كُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ (عليه السَّلام) الْمَدِينَةَ اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ وَ أَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ عَنْهُ كَمَا أَخَذْتُ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ لِي يَوْماً: "إِنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ، وَ مَعَ ذَلِكَ لِي أَوْرَادٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ فَلَا تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي 2 ، وَ خُذْ عَنْ مَالِكٍ وَ اخْتَلِفْ إِلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ وَ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، وَ قُلْتُ فِي نَفْسِي لَوْ تَفَرَّسَ فِيَّ خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِ وَ الْأَخْذِ عَنْهُ، فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ (صلى الله عليه و آله) وَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الْغَدِ إِلَى الرَّوْضَةِ وَ صَلَّيْتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ، وَ قُلْتُ أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيَّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَ تَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أَهْتَدِي بِهِ إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، وَ رَجَعْتُ إِلَى دَارِي مُغْتَمّاً وَ لَمْ أَخْتَلِفْ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِمَا أُشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إِلَّا إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ حَتَّى عِيلَ صَبْرِي، فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَ تَرَدَّيْتُ وَ قَصَدْتُ جَعْفَراً ــ وَ كَانَ بَعْدَ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ ــ فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟
فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَى الشَّرِيفِ.
فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ، فَجَلَسْتُ بِحِذَاءِ بَابِهِ، فَمَا لَبِثْتُ إِلَّا يَسِيراً إِذْ خَرَجَ خَادِمٌ فَقَالَ: ادْخُلْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
فَدَخَلْتُ وَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ وَ قَالَ: "اجْلِسْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ".
فَجَلَسْتُ، فَأَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَ قَالَ: "أَبُو مَنْ"؟
قُلْتُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: "ثَبَّتَ اللَّهُ كُنْيَتَكَ، وَ وَفَّقَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا مَسْأَلَتُكَ"؟
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَ التَّسْلِيمِ غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ لَكَانَ كَثِيراً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مَسْأَلَتُكَ"؟
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيَّ وَ يَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ، وَ أَرْجُو أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَنِي فِي الشَّرِيفِ مَا سَأَلْتُهُ.
فَقَالَ: "يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَيْسَ الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْعِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلًا فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَ اطْلُبِ الْعِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَ اسْتَفْهِمِ اللَّهَ يُفْهِمْكَ".
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ.
فَقَالَ: "قُلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ".
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟
قَالَ: "ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَنْ لَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ مِلْكاً، لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ، يَرَوْنَ الْمَالَ مَالَ اللَّهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَ لَا يُدَبِّرُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِلْكاً هَانَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ، وَ إِذَا فَوَّضَ الْعَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَ إِذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَ نَهَاهُ لَا يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرَاءِ وَ الْمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا أَكْرَمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَ إِبْلِيسُ وَ الْخَلْقُ، وَ لَا يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَ تَفَاخُراً، وَ لَا يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزّاً وَ عُلُوّاً، وَ لَا يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلًا، فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَوْصِنِي؟
قَالَ: "أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَ اللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْحِلْمِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ، فَاحْفَظْهَا وَ إِيَّاكَ وَ التَّهَاوُنَ بِهَا".
قَالَ عُنْوَانُ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ.
فَقَالَ:
"أَمَّا اللَّوَاتِي فِي الرِّيَاضَةِ:
- فَإِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا لَا تَشْتَهِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْحَمَاقَةَ وَ الْبَلَهَ.
- وَ لَا تَأْكُلْ إِلَّا عِنْدَ الْجُوعِ.
- وَ إِذَا أَكَلْتَ فَكُلْ حَلَالًا، وَ سَمِّ اللَّهَ، وَ اذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ (صلى الله عليه و آله) مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، فَإِنْ كَانَ وَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَ ثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَ ثُلُثٌ لِنَفَسِهِ.
وَ أَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْحِلْمِ:
- فَمَنْ قَالَ لَكَ إِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً.
- وَ مَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَ إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ.
- وَ مَنْ وَعَدَكَ بِالْخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَ الرِّعَاءِ.
وَ أَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْعِلْمِ:
- فَاسْأَلِ الْعُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ، وَ إِيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وَ تَجْرِبَةً.
- وَ إِيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ شَيْئاً وَ خُذْ بِالاحْتِيَاطِ فِي جَمِيعِ مَا تَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
- وَ اهْرُبْ مِنَ الْفُتْيَا هَرَبَكَ مِنَ الْأَسَدِ، وَ لَا تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً.
قُمْ عَنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَ لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ وِرْدِي، فَإِنِّي امْرُؤٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي، وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى"3 .
- 1. شيخ بصري قَدِمَ المدينة المنورة لطلب العلم و كان شيخاً كبِيراً قَدْ أَتَى عَلَيْهِ أَرْبَعٌ وَ تِسْعُونَ سَنَةً.
- 2. الوِرد : المندوب و المستحب ، مقابل الواجب ، و الجمع : أوراد .
- 3. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 1 / 224 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
5 تعليقات
والله استفدت من هذه النصیحة
أضافه داود ورما في
والله استفدت من هذه النصیحة
السلام عليكم أهل البيت
أضافه أبو يوسف الجزائري في
السلام عليك سيّدي ومولاي يا أبا عبد الله الإمام الصّادق . .
إنّ كلامكم نور
أنتم البحار وأنتم الأنوار يا أهل بيت النّبوّة
اريد شرح لبعض اجراء الحديث
أضافه S في
اريد شرح لبعض اجراء الحديث وين احصل ؟
رد استفهام
أضافه علاء العراقي في
مثل شنو لم تفهمهه؟ ان قصدت الخنى / معناهه قول الفحش.. وتستطيع استخراج المعاني من المعجم العربي.
سلسلة محاضرات هلى اليوتيوب تشرح هذا الحديث
أضافه عبد الله في ارضه في
السلام عليكم
فقط ابحثوا اسم الحديث تجدون سلسلة محاضرات لشرحه من علماء كبار و شباب , والله ولي التوفيق