نشر قبل 8 سنوات
مجموع الأصوات: 59
القراءات: 7905

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تنزيه يوسف عن محبة المعصية

نص الشبهة: 

فإن قيل : كيف يجوز أن يقول يوسف ( ع ): ﴿ ... رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... ، ونحن نعلم أن سجنهم له معصية ومحنة ، كما أن ما دعوه إليه معصية، ومحبة المعصية عندكم لا تكون إلا قبيحة.

الجواب: 

قلنا : في تأويل هذه الآية جوابان :

أحدهما : إنه أراد بقوله ﴿ ... أَحَبُّ إِلَيَّ ... 1 أخف علي وأسهل ، ولم يرد المحبة التي هي الإرادة على الحقيقة .
وهذا يجري مجرى أن يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان 2 عليه ، فيقول في الجواب كذا أحب إلي ، وإنما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة .
والوجه الآخر : إنه أراد أن توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن أحب إلي من مواقعة المعصية .
فإن قيل : هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد أضمرتم فيه .
قلنا : لا بد من مخالفة الظاهر ، لأن السجن نفسه لا يجوز أن يكون مرادا ليوسف ( ع ) ، وكيف يريده وإنما السجن البنيان المخصوص ، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه ، إذا قرأ : رب السجن ( بفتح السين ) وإن كانت هذه القراءة أيضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه ، فكأنه أراد أن سجني نفسي عن المعصية أحب إلي من مواقعتها . فرجع معنى السجن إلى فعله دون أفعالهم ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ، فليس للمخالف أن يضمر في الكلام أن كوني في السجن وجلوسي فيه أحب إلي ، بأولى ممن أضمر ما ذكرنا ، لأن كلا الأمرين يعود إلى السجن ويتعلق به .
فإن قيل : كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه ، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها .
قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه ، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له أن يقول : هذا أحب إلي من هذا ، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا ، إذا كان في محبته ، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر ، لأن المخير بين الشيئين في الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما .

فموضوع التخيير يقتضي ذلك ، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه . ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب أحدهما : هذا أحب إلي ، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير ، ويقارب ذلك قوله تعالى ﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ... 3 ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب ، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات .

وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا . فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا ، وقد قال قوم في قوله تعالى : ﴿ ... أَذَلِكَ خَيْرٌ ... 3 : أنه إنما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة ، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى : ﴿ ... خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا 4 ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله : رب السجن أحب إلي ، لأن الأمرين يعني : المعصية ودخول السجن ، مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا ، وإن لم يكن مشتركا في تناول المحبة ، فجعل اشتراكهما في دواعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها ، وأجرى اللفظ على ذلك .

فإن قيل: كيف يقول ﴿ ... وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ 5 ؟ وعندكم أن امتناع القبيح منه ( ع ) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع الكيد .

قلنا أنما أراد يوسف ( ع ) إنك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت ، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره ، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد ، والكلام وإن تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال ( ع ) ﴿ ... وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ... 1 فالمراد به إلا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن إنما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية ، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره ، وما أجري به إليه ، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا . ولمن فعل ما لا تأثير له : ما فعلت شيئا . وهذا بين والحمد الله تعالى 6 .