الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
نظرة سريعة الى حياة الامام محمد الباقر عليه السلام
الامام محمد الباقر (ع) من أفذاذ العترة الطاهرة ، ومن أعلام أئمة أهل البيت (ع) ومن ابرز رجال الفكر والعلم في الاسلام فقد قام ـ فيما اجمع عليه المؤرخون ـ بدور إيجابي وفعال في تكوين الثقافة الاسلامية وتأسيس الحركة العلمية في الاسلام ، فقد تفرغ لبسط العلم واشاعته بين المسلمين في وقت كان الجمود الفكري قد ضرب نطاقه على جميع انحاء العالم الاسلامي ، ولم تعد هناك أية نهضة فكرية أو علمية ، فقد منيت الامة بثورات متلاحقة ، وانتفاضات شعبية كان مبعثها تارة التخلص من جور الحكم الاموي واضطهاده ، واخرى الطمع بالحكم ، واهملت من جراء ذلك الحياة العلمية اهمالا تاما فلم يعدلها أي ظل على مسرح الحياة.
وقد ابتعد الامام الباقر (ع) عن تلك التيارات السياسية ابتعادا مطلقا فلم يشترك بأي عمل سياسي يتصادم مع الحكم القائم آنذاك ، واتجه صوب العلم فرفع مناره ، وأسس قواعده وأرسى اصوله ، فكان الرائد والمعلم والقائد لهذه الأمة في مسيرتها الثقافية ، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية مما يعتبر عاملا جوهريا في ازدهار الحياة الاسلامية وتكوين حضارتها المشرقة في الاجيال التي جاءت بعده.
وكان من أهم ما عنى به الامام أبو جعفر (ع) نشر الفقه الاسلامي الذي يحمل روح الاسلام وجوهره وتفاعله مع الحياة فسهر على احيائه فاقام مدرسته الكبرى التي زخرت بكبار الفقهاء كأبان بن تغلب ومحمد بن مسلم ، وبريد وأبي بصير الاسدي والفضل بن يسار ، ومعروف بن خربوذ وزرارة ابن اعين ، وهؤلاء الاعلام ممن اجمعت الصحابة على تصديقهم والاقرار لهم بالفقه ، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث أهل البيت (ع) ولو لا هم لضاعت تلك الثروة الفكرية الهائلة التي يعتز بها العالم الاسلامي وهي احدى المدارك الاساسية لفقهاء الشيعة في استنباطهم للأحكام الشرعية.
والشيء الذي يدعو الى الاعتزاز بسيرة الامام هو انه قد تبنى هؤلاء الفقهاء فاشاد بهم ، وعزز مركزهم ، وارجع الأمة الى فتواهم يقول (ع) لأبان بن تغلب :
« اجلس في مسجد المدينة ، وافت الناس فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك » 1.
وقد قام بتسديد نفقاتهم وما يحتاجون إليه في حياتهم المعاشية ليتفرغوا الى تحصيل العلم وضبط قواعده وتدوينه ، وعهد من بعده الى ولده الامام الصادق (ع) القيام برعايتهم والانفاق عليهم حتى لا تشغلهم الحياة الاقتصادية عن القيام بأداء مهماتهم ... وقد قاموا بدور بناء في تدوين الحديث الذي سمعوه منه ، كما أخذوا يلقون على البعثات الدينية ما رووه عنه ، وقد روى عنه تلميذه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث 2. كما روى عنه أبان بن تغلب مجموعة كبيرة عنه ، وقد حفلت الموسوعات الفقهية بحشد كبير من رواياتهم عنه فجميع أبواب الفقه من العبادات وسائر العقود والايقاعات مدعمة بالروايات عنه فكان المؤسس والناشر لفقه أهل البيت الذي يحتل الصدارة في الفقه الاسلامي.
ولم يقتصر الامام في محاضراته وبحوثه على الفقه الاسلامي وإنما خاض جميع الوان العلوم من الفلسفة وعلم الكلام والطب ، أما تفسير القرآن الكريم فقد استوعب اهتمامه ، فقد خصص وقتا له ، وقد دون أكثر المفسرين ما يذهب إليه وما يرويه عن آبائه في تفسير الآيات الكريمة ، وقد الف كتابا في التفسير رواه عنه زياد بن المنذر الزعيم الروحي للفرقة الجارودية 3.
ويعرض هذا الكتاب إلى بيان ذلك ، وتقديم برامج من تفسيره لبعض الآيات ، ومما تجدر الاشارة إليه ان الامام (ع) قد تحدث عن أحوال الأنبياء وما لاقوه من الاضطهاد من فراعنة زمانهم ، كما عرض لبعض حكمهم وآدابهم وعنه أخذ اكثر الباحثين في أحوال الأنبياء ... وتحدث (ع) بصورة موضوعية وشاملة عن السيرة النبوية وشرح أحوال الرسول الاعظم (ص) ومغازيه وحروبه.
وقد رواها عنه ابن هشام والواقدي والحلبي وغيرهم من المدونين للسيرة النبوية كما روى (ع) عن النبي (ص) بسنده عن آبائه مجموعة كبيرة من الاحاديث تتعلق بآداب السلوك وحسن الاخلاق وما ينبغي ان يتصف به المسلم من الصفات الرفيعة التي تجعله قدوة لغيره ... وروى بصورة شاملة الأحداث التأريخية التي جرت في العصر الاسلامي الاول ، وقد نقلها عنه الطبري في تأريخه والبلاذري في انسابه.
وناظر (ع) مع بعض علماء المسيحيين ، والازارقة ، وجادل الملحدين ، وقاوم الغلاة ، وقد خرج من مناظراته وهو ظافر قد اعترف الخصم بقدراته العلمية والعجز عن مجاراته ، ويعرض هذا الكتاب الى ذكر ذلك.
لقد ترك الامام (ع) ثروة فكرية هائلة تعد من ذخائر الفكر الاسلامي ومن مناجم الثروات العلمية في الارض وليس من المستطاع تسجيل جميع ما أثر عنه من العلوم والمعارف فان ذلك يستدعي وضع عدة مجلدات ، وانما أشرنا الى بعضها ، وتركنا الباب مفتوحا لمن يريد أن يبحث بصورة شاملة عن ثرواته العلمية.
وعلى أي حال فان التأريخ لم يعرف أماما كمحمد الباقر (ع) قد وقف حياته كلها لنشر العلم واذاعته بين الناس ، فكان ـ فيما يقول الرواة ـ قد أقام في يثرب سادنا أمينا كالجبل أو كالبحر وهو يغذي رجال الفكر ورواد العلم بفقهه وعلمه التي تحمل عناصر التقدم ، وعناصر الحياة لا لهذه الامة فحسب ، وإنما للناس جميعا.
وكما كان الامام الباقر (ع) من عمالقة الفكر والعلم في الاسلام فقد كان من أبرز أئمة المسلمين فيما أوتي من عظيم الاخلاق والتجرد من كل نزعة مادية أو أنانية ، فكان في سلوكه يمثل روح الاسلام وفكره وانطلاقه في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم.
ويجمع المؤرخون انه كان مشغولا في أكثر اوقاته بذكر الله ، وانه كان ينفق لياليه ساهرا في الصلاة لله ومناجاته شأنه شأن آبائه الذين هم مصابيح الهداية والتقوى في الارض ، وقد تحرج الامام في حياته كأشد ما يكون التحرج ، فزهد في الدنيا ، وابتعد عن جميع زخارفها ، واتجه بقلبه وعواطفه نحو الله فآثر طاعته على كل شيء ، وعلى كل ما يقربه إليه زلفى ، فلم ينقاد لأية نزعة من نزعات الهوى ، وانما تحرر منها تحررا كاملا ، ولم يعد لها أي سلطان عليه.
لقد كانت سيرة الامام تحاكي سيرة جده الرسول الاعظم (ص) في جميع مكوناتها وذاتياتها ، ولا يكاد يقرأها أحد إلا ويذهب به الاعجاب كل مذهب ، ويمضي به الاكبار الى غير حد.
وامتحن الامام الباقر (ع) وهو في غضارة الصبا امتحانا شاقا وعسيرا ، فقد شاهد رزايا كربلا وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل ، فقد جرت امامه عملية القتل الجماعي بوحشية قاسية لعترة النبي (ص) ولم يتأثم الجيش الاموي في قتل الاطفال الابرياء والنساء والشيوخ ، والتمثيل الآثم بجثمان الامام العظيم ، وغير ذلك من الكوارث التي تذوب من هولها القلوب ، وقد حمل أسيرا مع أسارى أهل البيت الى ابن مرجانة فبالغ في اذلالهم واحتقارهم ، واظهر الشماتة والحقد بقتله لعترة النبي (ص) وذريته ، وحملهم الى الطاغية الفاجر يزيد بن معاوية فقابلهم بمزيد من الاحتقار والتوهين.
وقد وعى الامام الباقر (ع) تلك الاحداث المؤلمة فملئت قلبه ألما عاصفا وطبعت في نفسه اللوعة والحزن ، وظلت ملازمة له طول حياته فلم يهنىء بعيش ولم تطب له الحياة ، قد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير.
ومن الكوارث التي دهمته وهو في غضون الصبا واقعة الحرة التي انتهك فيها جيش يزيد حرمة مدينة الرسول (ص) فاستباح الاعراض والاموال وازهاق النفوس ، ولم تبق حرمة لله إلا انتهكها ، ولم ينج من أهوال تلك الكارثة الأليمة الا الامام زين العابدين (ع) لوصية عهد بها يزيد الى جلاده المسرف الأثيم مسلم بن عقبة ، وتركت هذه الصور الحزينة في نفس الامام شعورا انبعاثيا طافحا بالاسى والحزن.
وكان عصر الامام من أدق العصور في الاسلام فقد كانت الحياة فيه بشعة شديدة الظلام ومرهقة كأشد ما يكون الارهاق ، فقد تفجرت البلاد الاسلامية ببركان من الثورات كانت نتيجة لسوء السياسة الاموية التي لم تضع نصب أعينها مصلحة الشعوب الاسلامية ، وانما راحت تتصرف بوحي من رغباتها الخاصة من دون أن تولي أي اهتمام بصالح الأمة ، فقد وضعت عليها الضرائب الثقيلة ، وشددت في أمر الخراج وسلبت ثروات الامة ، وانفقتها على شهواتها وملاذها ، واستبدت كأشر ما يكون الاستبداد في جميع شئونها.
ولا بد لنا أن نذكر الحكومات التي عاصرها الامام ، ونعرض الاحداث السياسية التي جرت في ذلك العصر ، ويجب أن نلاحظها بدقة وامعان فهي مما تمس الحياة الاجتماعية والفكرية في ذلك العصر الذي نشأ فيه الامام ، ومن الطبيعي أن الباحث الذي يهمل ذلك فانه من غير الممكن أن يتوصل الى دراسة الشخصية التي يبحث عنها أو يهتدي الى فهمها حسب الدراسات الحديثة.
ان من الامانة للعلم والرغبة في الحق اظهار تلك الاحداث والتدليل على مصادرها ، ومناقشة المصادر التي لم تخضع للحق وانما كانت خاضعة للأهواء التي هي أبعد ما تكون عن الواقع ، فان الدراسة بهذا اللون ـ فيما نحسب ـ تعود على القراء بمزيد من الفائدة.
ولم تحظ المكتبة العربية بدراسة عن هذا الامام العظيم الذي هو من عناصر الثقافة والتكوين الحضاري لهذه الامة ، فانه ليس من الوفاء في شيء ان نهمل حياة عظمائنا في حين أن الأمم الحية قد عنت بتخليد عظمائها والاشادة بهم وابراز مآثرهم الى العالم للتدليل على مدى اصالتها وما تملكه من القيم الكريمة يقول العقاد : « ان الاوربيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم بل قد دعتهم العصبية أحيانا أن يتزايدوا في نواحي هذه العظمة ، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسا للنفس واثارة لطلب الكمال ، أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا والاستفادة منهم ».
ومن هو أحق بالاشادة من الامام محمد الباقر (ع) الذي هو من ابرز القادة الطليعيين لهذه الامة ، وأحد عباقرة هذه الدنيا ، والذي كان من بعض مآثره وخدماته تحرير النقد العربي والاسلامي من السيطرة الخارجية ، وجعله مستقلا بنفسه غير مرتبط بالامبراطورية الرومانية بما سنذكره تفصيلا في غضون هذا الكتاب.
وقد عنى القدامى بالبحث عن سيرة الامام أبي جعفر فألف الجلودي عبد العزيز بن يحيى المتوفى سنة ( ٣٠٤ ه ) كتابا اسماه « اخبار أبي جعفر الباقر » 4 ذكر فيه أحواله وشئونه الا أنا لم نعثر عليه في خزانة المخطوطات التي حفلت بها مكتباتنا العامة. ولعله يوجد في خزائن المخطوطات الاخرى في العالم أو انه قد ضاع في ضمن المخطوطات الكثيرة التي خسرها العالم العربي والاسلامي.
وقد ساعدني التوفيق ـ والحمد لله ـ فتشرفت بالبحث عن سيرة هذا الامام العظيم ومن الحق اني لم أر صورة أروع ولا أنظر منه ، فهو يمثل جميع القيم الانسانية التي يعتز بها كل انسان.
وقد عكفت على مراجعة جملة كبيرة من المصادر المخطوطة والمطبوعة التي عرضت لترجمته وتدوين بعض مآثره وحكمه ، وأنا واثق كل الوثوق أن الباحث المتتبع يجد اضعاف ما كتبته عن حياته مما قد خفي عليّ ، ولا ازعم أني احطت بترجمته أو دونت جميع ما أثر عنه ، وانما القيت اضواء على شخصيته ، وتركت الباب مفتوحا لغيري من البحاث للكشف عن حياته.
وقبل أن انهي هذا التقديم أود أن اذكر بمزيد من الشكر ما قام به ولدنا السيد الجليل السيد عبد الرسول بن السيد رضا الحسيني الصائغ من المساهمة في الانفاق على طبع هذا الكتاب سائلا منه تعالى أن يوفقه لكل مسعى نبيل وما التوفيق الا بيد الله يهبه لمن يشاء من عباده 5.
٦ / ١١ / ١٩٧٧ م ـ ١٣٩٧ ه
باقر شريف القرشي