الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نبذة عن حياة الامام زين العابدين عليه السلام

اكبار وتعظيم رجال الفكر والعلم

واجمع رجال الفكر والعلم في عصر الامام زين العابدين على تعظيمه واكباره وتقديمه بالفضل على غيره وهذه بعض كلماتهم.
١ ـ سعيد بن المسيب
وغمرت هيبة الامام وعظمته سعيد بن المسيب فراح يقول : « ما رأيت قط افضل من علي بن الحسين ، وما رأيته قط إلا مقت نفسي ، ما رأيته يوما ضاحكا .. » 1.
٢ ـ الزهري
وهام الزهري بحب الامام يقول : « ما رأيت قرشيا أفضل منه » 2 وقال : « ما رأيت أفقه من علي بن الحسين » 3.
٣ ـ زيد بن اسلم
يقول زيد بن اسلم : « ما رأيت مثل علي بن الحسين » 4.
٤ ـ عمر بن عبد العزيز
وقال عمر بن عبد العزيز لما أتاه نعي الامام : « ذهب سراج الدنيا ، وجمال الاسلام ، وزين العابدين » 5.
٥ ـ أبو حازم
يقول أبو حازم : « ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين » 6.
٦ ـ مالك
يقول مالك : « لم يكن في أهل بيت رسول الله (ص) مثل علي بن الحسين » 7.
٧ ـ جابر بن عبد الله
وممن هام بحب الامام الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري يقول : « ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين. » 8
٨ ـ الواقدي
يقول الواقدي : « كان علي بن الحسين من أورع الناس وأعبدهم واتقاهم لله عز وجل .. » 9
وحكت هذه الكلمات انطباعات هؤلاء الاعلام من الامام ، فقد اقروا جميعا على تقديمه بالفضل والعلم على غيره من ابناء الأسرة النبوية ـ في عصره ـ التي تمثل الكمال المطلق للإنسان.

سمو اخلاقه

أما معالي أخلاقه فانها نفحة من روح الله يهتدي بها الحائر ويسترشد بها الضال وقد حاكى بهذه الظاهرة جده الرسول (ص) الذي امتاز على سائر النبيين بسمو اخلاقه.
وكان (ع) ـ فيما أجمع عليه المؤرخون ـ يقابل كل من اساء إليه بالعفو والصفح الجميل ، ويغدق عليه ببره ومعروفه ، ليقلع من نفسه جذور البغي والاعتداء على الغير ، وهذه بعض البوادر التي أثرت عنه.
أ ـ يقول المؤرخون : إن اسماعيل بن هشام المخزومي كان واليا على يثرب ، وكان من أعظم المبغضين والحاقدين على آل البيت (ع) وكان يبالغ في إيذاء الامام زين العابدين ، ويشتم آباءه على المنابر ، تقربا الى حكام دمشق ، ولما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بادر الى عزله والوقيعة به لهنات كانت بينه وبينه قبل أن يلي الملك والسلطان ، وقد أوعز بايقافه للناس لاستيفاء حقوقهم منه ، وفزع هشام كأشد ما يكون الفزع من الامام (ع) لكثرة إساءته له ، وقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين فانه رجل صالح يسمع قوله فيّ ، ولكن الامام عهد إلى أصحابه ومواليه ان لا يتعرضوا له بمكروه ، وخف إليه فقابله ببسمات فياضة بالبشر ، وعرض عليه القيام بما يحتاج إليه في محنته قائلا له : « يا ابن العم عافاك الله لقد ساءني ما صنع بك فادعنا إلى ما احببت .. »
وذهل هشام ، وراح يقول بإعجاب : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء .. » 10
ب ـ ومن معالي اخلاقه هذه البادرة التي ترفعه الى مستوى لم يبلغه أي مصلح كان عدا آبائه ، كما تدلل على امامته.
لقد روى المؤرخون أنه كان في كل يوم من شهر رمضان يذبح شاة ويطبخها ويوزعها على الفقراء والمحرومين ، وفي يوم حمل غلامه اناء فيه شيء من المرق وكان يغلى من شدة الحرارة فعثر الغلام باحد اطفال الامام ، فتوفي الطفل في الوقت ، فارتفعت الصيحة من العلويات ، وكان الامام يصلي فلما انفلت من صلاته أخبر بوفاة ولده فاسرع (ع) الى الغلام فرآه يوعد من شدة الخوف ، فقابله بلطف وحنان ، وقال له : « لقد ظننت بعلي بن الحسين الظنون ، ظننت أنه يعاقبك ويقتص منك .. اذهب فأنت حر لوجه الله ، وهذه أربعة آلاف دينار هدية إليك ، واجعلني في حل من الخوف الذي داخلك من أجلي ... » 11.
أي نفس ملائكية هذه النفس ، إنها لتفوق نفوس عباد الله الصالحين الذين امتحن الله قلوبهم بالايمان ... لقد ورث هذه الاخلاق العظيمة من جده الرسول العظيم (ص) الذي أسس مكارم الاخلاق في الارض.
ج ـ ومن معالي اخلاقه أنه كان خارجا من المسجد فالتقى به رجل من شانئيه فقابل الامام بالسب والشتم فثار في وجهه بعض موالي الامام وأصحابه فنهرهم (ع) وأقبل على الرجل بلطف قائلا : « ما ستر عليك من أمرنا أكثر ... الك حاجة نعينك عليها .. »
واستحيا الرجل وودّ أن الارض قد وارته ، وبان عليه الانكسار والندم ، وبادر نحوه الامام (ع) فالقى عليه خميصة ، وأمر له بألف درهم ، وطفق الرجل يقول : « اشهد أنك من بني الرسل!! » 12.
هذه بعض البوادر من معالي اخلاقه التي تفيض بالرحمة والحلم ، ونكران الذات ... والحق ان اخلاق أهل البيت (ع) مدرسة تقوم على الشرف والنبل وعلى كل ما يسمو به الانسان.

نشره للعلم

وانصرف الامام زين العابدين (ع) بعد كارثة كربلا الى نشر العلم واذاعته بين الناس ولم يقتصر على علم الحديث والفقه ، وإنما عنى بالأخلاق والآداب والفلسفة والحكمة.
وقد أمد الفكر الاسلامي بطاقات هائلة من العلم والحكمة وآداب السلوك حفلت بها صحيفته ، ورسالته في الحقوق ، وغيرهما من موسوعات الحديث وكتب الاخلاق ، وقد قام بدور إيجابي وبناء في ابراز مثل الاسلام وقيمه وتعاليمه.

حثه على طلب العلم

وكان (ع) يحث المسلمين على طلب العلم ، ويدعوهم الى المبادرة في تحصيله لأنه الاداة الخلاقة لتطورهم وازدهار حياتهم يقول (ع) : « لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج ، وخوض اللجج ».
وأوصى (ع) بعض أصحابه ببسط العلم ونشره ، وأن لا يتجبر على من يعلمه ، يقول (ع) : « فان أنت احسنت في تعليم الناس ، ولم تتجبر عليهم زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت علمك ، وأخرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلك. » 13.

احتفاف القراء به

واحتف القراء بالامام زين العابدين ، وكانوا لا يفارقونه فقد كانوا يكتسبون منه العلوم والمعارف والآداب ، وتحدث سعيد بن المسيب عن مدى ملازمتهم للإمام يقول : إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ، فخرج وخرجنا معه الف راكب 14.

عتقه للموالى

وكان الامام زين العابدين (ع) يعطف على الموالي كأشد ما يكون العطف ، فكان يشتريهم ، ويشتري نساءهم ، ويعتقهم جميعا لينعموا بالحرية والكرامة ، وإذا اعتقهم منحهم الأموال الطائلة ، والثراء العريض ليستغنوا عما في أيدي الناس.
وقد تبنى طائفة من الموالي فجعل يغذيهم بأنواع العلوم والمعارف ، وقد تخرج على يده مجموعة منهم كانوا من كبار العلماء في ذلك العصر ، وكان ذلك هو السبب في تزعم الموالي للحركة العلمية في تلك العصور ، كما ان ذلك هو السبب في انتشار الولاء لأهل البيت (ع) عندهم ، وانضمامهم لكل حركة سياسية تدعو الى التخلص من الحكم الاموي ، وارجاع الخلافة لاهل البيت (ع) الذين كانوا الملجأ لكل بائس ومحروم.

عبادته وتقواه

وكان الامام زين العابدين من رهبان هذه الامة في عبادته وتقواه. وقد لقب بذي الثفنات لكثرة سجوده ، كما لقب بالمتهجد ، وزين العابدين ، وسيد العابدين 15 والسجاد وهي تشير الى كثرة عبادته ، وعظيم اقباله على الله ، وقد روى المؤرخون أنه إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول لهم : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ 16 وقد دخل عليه ولده الباقر فرآه قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فقد اصفر لونه من السهر ورمصت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من كثرة السجود ، وورمت ساقاه من القيام في الصلاة ، فلم يملك ولده نفسه من البكاء ، وكان الامام زين العابدين في شغل عنه ، فلما بصر بولده أمره ان يناوله بعض الصحف التي فيها عبادة جده الامام أمير المؤمنين (ع) فناوله تلك الصحف فجعل يتأمل فيها ، ثم تركها ضجرا وراح يقول : « من يقوى على عبادة علي ابن أبي طالب » 17 وكان (ع) إذا قام للصلاة بين يدي الله توجه بقلبه ومشاعره نحو الخالق العظيم ، فلا يشغله أي شأن من هذه الحياة ، ويقول الامام الباقر (ع) : كان أبي اذا وقف للصلاة لم يشتغل بغيرها ، ولم يسمع شيئا لشغله بها وقد سقط بعض ولده فانكسرت يده ، فصاح أهله وجيء بالمجبر فجبر يده والصبي يصرخ من شدة الالم ، والامام لم يسمع فلما اصبح ورأى الصبي قد شدت يده فسأل عن ذلك فأخبره أهله بذلك 15
وقد أجهدته العبادة أي اجهاد ، فقد حمل نفسه من أمرها رهقا ، وقد خاف عليه أهله ، فراحوا يتوسلون إليه ليخفف من عبادته ، وهو يأبى ذلك ، يقول الامام الباقر (ع) : لما رأت فاطمة بنت الامام أمير المؤمنين ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة اقبلت الى جابر بن عبد الله الانصاري فقالت له :
« يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقا ، ومن حقنا عليكم ان إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله وتدعوه الى البقيا على نفسه ، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه ، ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه مما دأب على نفسه في العبادة .. »
وانطلق جابر الى الامام زين العابدين فوجده في محرابه قد أضنّته العبادة ، واجهدته الطاعة ونهض الامام فاستقبل جابر ، واجلسه إلى جنبه ، وسأله سؤالا حفيا عن حاله ، واقبل جابر عليه قائلا :
« يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ .. »
فاجابه الامام بلطف وحنان قائلا :
« يا صاحب رسول الله ، أما علمت أن جدي رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، فلم يدع الاجتهاد له وتعبد ـ بأبي وأمي ـ حتى انتفخ ساقه ، وورم قدمه ، وقد قيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا ... »
ولما نظر جابر الى الامام لا يغنى معه قول يميل به من الجهد والتعب ، طفق يقول له : « يا ابن رسول الله ، البقيا على نفسك ، فانك من أسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف الادواء ، وبهم تستمطر السماء ... »
فاجابه الامام بصوت خافت :
« لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما حتى القاهما ... »
وبهر جابر ، وأقبل على من حوله قائلا :
« ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب ، والله لذرية الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب!! إن منهم لمن يملأ الارض عدلا كما ملئت جورا ... » 18
لقد كان الامام زين العابدين امام المتقين والمنيبين فقد اجتهد في عبادته وأخلص في طاعته ، ولم يؤثر عن القديسين مثل ما أثر عنه من الاقبال على الله.

صدقاته وبره

وكان الامام زين العابدين من أبر الناس بالضعفاء ، وأرفقهم بالمساكين ، وأرحمهم للبائسين ، وكان يؤثر اصحاب الفاقة على نفسه وأهله ، وقد اجمع المؤرخون انه كان يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ، ويقول : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب 19 وكان يعول بمائة بيت في المدينة 19 وكان اذا ناول الفقير الصدقة قبله ثم ناوله 19 وإنما كان يفعل ذلك لئلا يبدو على الفقير أثر الذل والانكسار ، ويقول المؤرخون : ان الامام أبا جعفر (ع) لما غسل أباه نظر بعض من كان حاظرا تغسيله الى مواضع المساجد من ركبتيه ، وظاهر قدميه كأنهما مبارك البعير من كثرة سجوده إلا انهم نظروا الى عاتقه فوجدوا مثل ذلك الاثر عليه فسألوه عن ذلك فقال (ع) :
« اما انه لو كان حيا ما حدثتكم عنه ، كان لا يمر به يوم من الايام إلا اشبع فيه مسكينا فصاعدا ما أمكنه ، فاذا كان الليل نظر الى ما فضل عن قوت عياله يومهم ذلك فجعله في جراب فاذا هدأ الناس وضعه على عاتقه ، وتخلل المدينة وقصد قوما لا يسألون الناس الحافا فوصلهم من حيث لا يعلمون من هو ، ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري ، فانى كنت أطلعت على ذلك منه يرجو بذلك فضل اعطاء الصدقة بيده ، ودفعها سرا ، وكان يقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب 20.
ويروي الامام الباقر (ع) بعض مبرات أبيه فيقول : كان أبي ربما يشتري مطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه ، ويدخل به المسجد فاذا كان الصيف أمر فيتصدق به ، أو بيع فيتصدق بثمنه 21.
لقد كان الامام زين العابدين (ع) نسخة لا ثاني لها في تأريخ الانسانية ، فان مقايسه الخلقية ، وفضائله النفسية لترفعه الى مستوى لم يبلغه أي انسان عدا آبائه.

رائعة الفرزدق

حج الامام زين العابدين (ع) بيت الله الحرام ، وكان قد حج هشام بن عبد الملك ، وقد جهد هشام على استلام الحجر فلم يستطع لزحام الناس على الحجر ، ونصب له منبر فجلس عليه ، وجعل ينظر الى طواف الناس ، واقبل الامام زين العابدين ليؤدي طوافه ، فلما بصر به الحجاج غمرتهم هيبته التي تحكي هيبة جده رسول الله (ص) وتعالت الاصوات بالتهليل والتكبير ، وانفرج الناس له سماطين ، وكان السعيد من يراه ، والسعيد من يقبل يده ، ويلمس كتفه ، فانه بقية الله في ارضه ، وذهل اهل الشام ، وبهروا ، وتطلعت إليه أعناقهم وأبصارهم فان هشام المرشح للخلافة بعد أبيه مع ما احيط به من هالة التكريم من أهل الشام واحتفاف الشرطة به ، فانه لم ينل أي لون من الوان الحفاوة من الحجاج ، وبادر أحد اصحابه فقال له :
« من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟ »
وتميز هشام من الغيظ ، وانتفخت أوداجه فصاح بالرجل « لا اعرفه .. »
وإنما انكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه الناس ، وكان الفرزدق حاضرا ، فلم يملك أهابه فقال لاهل الشام :
« أنا اعرفه »
« من هو يا أبا فراس؟ »
وصاح هشام بالفرزدق قائلا :
« أنا لا أعرفه » « بلى تعرفه »
ونهض فانشد هذه الرائعة التي كانت أشد وقعا على هشام من ضرب السيوف وطعن الرماح قائلا :
هذا سلـيل حســين و ابـن فاطـمة               بنت الرسول الذي انجابت به الظلم
هذا الذي تـعرف البطـحاء وطأتـه               و البــيت يعرفـه و الحل و الــــحرم
هذا ابـــن خيــر عبـاد الله كـلهـم               هذا التـــقي النــقي الطــاهر العـــــلم
اذا رأتــــه قريـــش قـــال قـائــلها:               الـــى مــكارم هذا ينتــهي الـــــكرم
يرقى الى ذروة العز الذي قـصرت               عن نيلها عرب الاسلام والعــجــم
يـكاد يـمسـكـه عــرفــــان راحتــه               ركن الحطيم اذا ما جاء يستـــــــلـم
يغضي حياء ويغضى مـن مـهابــته                فـــلا يكـــلم إلا حــــين يبتـــــســم
بــكفــه خيــزران ريحـــــها عبــق                من كف أروع في عرينينه شمـــم
مـن جــده دان فضـل الأنبياء له                و فضــل أمتــه دانت لـه الامـــــم
ينشــق نور الهدى عـن نور غرتـه               كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم
مشتــقة من رســــول الله نـبـعتــه                طابـت عناصرها و الخـيم و الشــيم
هذا ابن فاطـمة ان كنت جاهله                 بجـــــده انبـياء الله قـــد ختـــــموا
الله شـــــرفــه قـدمــــا و فضـــــله                جرى بــذاك لــــه في لوحــــه القلم
فليس قولك مـــن هـذا بضـــائره                 العرب تعرف من انكرت والعجم
كـلتــا يـديـــه غيـاث عم نفعهما                 يستو كفان و لا يعــروهما عــــدم
حمــال اثــقـال أقـوام اذا فـدحوا                 حلـــو الشمائل تحلـــو عنده نعـــم
لا يخـلف الـوعـد مـيمون نقـيبته                 رحب الفناء أريب حســين يعتزم
من معشر حبهم دين و بغضــهم                 كفر وىقربهم منــجى وىمــعتــصـم
إن عــد أهـل التقى كانوا أئمتهم                 أو قيل من خير أهل الارض قيل هم
لا يستطيـع جـواد بعـد غايــــتهم                 و لا يدايــنهم قــــوم و إن كرمـــوا
هم الغــيوث إذا ما ازمة ازمت                 والاسد أسد الشرى والبأس محتدم
لاينقص العسر بسطا من اكفهم                سيان ذلك ان أثروا وان عدمـــوا
يستـدفع السـوء و البلوى بحــبهم                 و يسترد بـه الاحســــان و النعـــم
مقــــــدم بعـــد ذكر الله ذكرهــم                 في كل أمر و مختوم بـه الكــــــلم
يأبى لهم أن يحل الـذل ساحتهم                 خيم كريم و أيـد بالندى هضــــم
أي الخلائق ليـــست في رقابهم                  لا وليــــة هــــــذا أولا نعـــــــــم
من يشـــكر الله يشــــكر أولية ذا                   فالدين من بيـت هذا بابه الامم
وثار هشام وود أن الارض قد خاست به ، ولا يسمع هذه القصيدة العصماء التي دللت على واقع الامام العظيم ، وعرفته لاهل الشام الذين جهلوه وجهلوا آباءه ، وأمر بالوقت باعتقال الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، وبلغ ذلك الامام زين العابدين فبعث إليه باثني عشر الف درهم فردها الفرزدق ، واعتذر من قبولها ، وقال : إنما قلت فيكم غضبا لله ورسوله فردها الامام عليه فقبلها، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وكان مما هجاه به :
أيحبسني بين المدينة والتي      إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد      وعين له حولاء باد عيوبها 22

الحزن العميق

ولم ينكب أحد في هذه الدنيا بمثل ما نكب به الامام زين العابدين 7 فقد عانى أهوال كارثة كربلا ، وشاهد فصول تلك المأساة الخالدة في دنيا الاحزان ، وكان مريضا قد ألمت به العلل والامراض ، وقد ادمت قلبه تلك المشاهد الحزينة فكانت تبعثه على الاستمرار فى البكاء واللوعة ، وكان حزنه يزداد تحرقا وتأججا كلما تقدمت الايام حتى براه الحزن ، وبلغ من عظيم حزنه انه ما قدم له طعام ولا شراب إلا مزجه بدموع عينيه حزنا على أبيه 23 وألح عليه بعض مواليه ان يخلد الى الصبر ويخفف لوعة المصاب فقال له : اني اخاف عليك أن تكون من الهالكين ، فاجابه الامام برفق ولطف قائلا :
« يا هذا إنما اشكو بثي وحزني الى الله ، واعلم ما لا تعلمون ، ان يعقوب كان نبيا فغيب الله عنه واحدا من اولاده وعنده اثنا عشر ولدا ، وهو يعلم أنه حي فبكى عليه حتى أبيضت عيناه من الحزن ، وأني نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟! واني لا أذكر مصرع ابن فاطمة إلا خنقتني العبرة ، واذا نظرت الى عماتي وأخواتي ذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة الى خيمة ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين .. »
لقد كانت تلك المشاهد المفجعة التي تم تمثيلها على صعيد كربلا تبعثه على الحزن والأسى حتى عد من البكائين الخمسة الذين مثلوا الحزن والبكاء على مسرح الحياة في جميع الاحقاب والآباد.
وكان الامام الباقر (ع) ينظر الى هذا الحزن المرهق الذي حل بأبيه فيجزع كأشد ما يكون الجزع وربما شاركه في بكائه ولوعته.

وصاياه لولده الباقر

وزود الامام العظيم ولده الباقر وسائر ابنائه بوصايا تربوية حفلت بالآداب العالية والقيم الكريمة التي تضمن لمن عمل بها السلامة والراحة ، وتهيئ له جوا من الطمأنينة ، والبعد عن مشاكل هذه الحياة .. وهذه بعضها :

١ ـ قال (ع) لولده الباقر : « يا بني لا تصحبن خمسة ، ولا تحادثهم ، لا تصحبن الفاسق فانه يبيعك بأكلة فما دونها ، قلت : يا أبت وما دونها؟ قال : يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا تصحب البخيل فانه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ، ولا تصحب الكذاب فانه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب ، ويقرب منك البعيد ، ولا تصحب الاحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك ، وقد قيل : عدو عاقل خير من صديق أحمق ، ولا تصحب قاطع رحم فانه ملعون في كتاب الله في ثلاثة مواضع : في سورة محمد قال تعالى : ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ 24 وفي سورة الرعد حيث يقول تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ 25.
وفي سورة الأحزاب حيث يقول الله تعالى :  ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ 26 27
وقد حذر الامام (ع) في هذه الوصية من مزاملة هؤلاء الاشخاص المصابين في اخلاقهم خوفا من انتقال أمراضهم النفسية الى من يصحبهم فان للصحبة أثرا فعالا في تكوين السلوك الشخصي للفرد.
٢ ـ وأوصى (ع) ولده الامام الباقر بهذه الوصية القيمة قال له : « افعل الخير الى كل من طلبه منك فان كان أهلا فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن باهل كنت أنت اهله ، وان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره ... » 28.
وحفلت هذه الوصية بمكارم الاخلاق التي طبعت عليها نفوس أهل البيت (ع) فان الحث على فعل الخير ، والصفح عن المسيء كل ذلك من ذاتياتهم ومن أبرز ما عرفوا به.
٣ ـ قال الامام الباقر (ع) : كان أبي علي بن الحسين يقول لولده :
« اتقوا الكذب الصغير منه ، والكبير في كل جد وهزل لأن الرجل اذاكذب في الصغير اجترأ على الكبير ... » 29.
لقد ربى الامام (ع) ولده بمحاسن الاعمال وغرس في نفوسهم النزعات الشريفة ، ونهاهم عن كل ما يوجب انحطاط الانسان في سلوكه.
٤ ـ وأوصى (ع) ولده الامام الباقر بهذه الوصية الرفيعة قال (ع) :
« يا بني العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل ترجمان العلم ، واعلم أن العلم ابقى ، اللسان أكثر هذرا ، وان اصلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين بهما اصلاح شأن المعايش ملء مكتال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل 30 لأن الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن له ، واعلم أن الساعات تذهب عمرك ، وأنت لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى وإياك والأمل الطويل فكم من مؤمل لا يبلغه ، وجامع مال لا يأكله ، ومانع مال سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه اصابه حراما وورثه واحتمل اصره ، وباء بوزره وذلك هو الخسران المبين. »31

هذه بعض وصاياه وقد حفلت بالآداب الرفيعة والحكم القيمة والتوجيه السليم ، ولم يضعها لأبنائه فقط ، وإنما وضعها للناس جميعا على اختلاف قومياتهم وأديانهم.

أدعيته لولده

أما أدعية الامام على وجه العموم فانها تمثل جانبا أصيلا ومشرقا من جوانب التربية الاسلامية ، وهي من افضل الوسائل لتهذيب النفوس ، وتقويم الاخلاق.
لقد رأى الامام العظيم الأمة ـ في عصره ـ قد غمرتها سحب قاتمة من التدهور الديني والخلقي والاجتماعي فوضع أدعيته التي عرفت با ( السجادية ) ليعالج بها الأمراض النفسية ، ويعيد للأمة ما فقدته من أرصدتها الروحية والفكرية ، وهي من اثمن الثروات الاسلامية بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة.

ان ادعية الامام (ع) تتفجر بالعلم والحكمة ، وتفيض بروح الايمان والاسلام ، وتمد الأمة بما تحتاجه من التعليم لضمان توازنها الاجتماعي والفردي ، .. وكان من بين ادعيته الشريفة هذا الدعاء الذي خص به ولده يقول (ع) : « اللهم ومنّ علي ببقاء ولدي ، وباصلاحهم لي ، وبامتاعي بهم ، الهي : امدد لي في اعمارهم ، وزد في آجالهم ، ورب لي صغيرهم ، وقولي ضعيفهم ، واصح لي أبدانهم واديانهم ، واخلاقهم ، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كل ما عنيت به من أمرهم ، وادرر لي وعلى يدي ارزاقهم ، واجعلهم ابرارا اتقياء ، بصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبين مناصحين ولجميع اعدائك معاندين ومبغضين آمين.
اللهم أشدد بهم عضدي ، وأقم بهم أودي ، وكثر بهم عددي ، وزين بهم محضري ، واحي بهم ذكري ، واكفني بهم في غيبتي ، واعني بهم على حاجتي ، وأجعلهم لي محبين ، وعلى حدبين مقبلين ، مستقيمين لي مطيعين غير عاصين ، ولا عاقين ولا مخالفين ، ولا خاطئين ، واعني على تربيتهم وتأديبهم ، وهب لي من لدنك معهم أولادا ذكورا ، واجعل ذلك خيرا لي ، واجعلهم لي عونا على ما سألتك ، واعذني وذريتي من الشيطان الرجيم ، فانك خلقتنا وأمرتنا ونهيتنا ، ورغبتنا في ثواب ما أمرتنا ورهبتنا عقابه ، وجعلت لنا عدوا يكيدنا سلطته منا على ما لم تسلطنا عليه منه اسكنته صدورنا ، واجريته مجاري دمائنا ، لا يغفل ان غفلنا ، ولا ينسى ان نسينا ، يؤمننا عقابك ، ويخوفنا بغيرك ، إن هممنا بفاحشة شجعنا عليها ،
وان هممنا بصالح ثبطنا عنه ، يتعرض لنا بالشهوات ، وينصب لنا بالشبهات ... إن وعدنا كذبنا ، وإن منانا اخلفنا ، وإلا تصرف عنا كيده يضلنا وإلا تقنا خباله يستزلنا.
اللهم : فاقهر سلطانه عنا بسلطانك حتى تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك فنصبح من كيده في المعصومين بك ... اللهم فاعطني كل سؤلي ، واقض لي حوائجي ، ولا تمنعني الاجابة ، وقد ضمنتها لي ، ولا تحجب دعائي عنك وقد امرتني به ... وامنن عليّ بكل ما يصلحني في دنياي وآخرتي ما ذكرت منه وما نسيت ، أو أظهرت او اخفيت ، أو اعلنت أو اسررت ، واجعلني في جميع ذلك من المصلحين بسؤالي اياك ، المنجحين بالطلب إليك غير الممنوعين بالتوكل عليك ، المعوذين بالتعوذ بك ، والراغبين في التجارة عليك ، المجارين بعزك ، الموسع عليهم الرزق الحلال من فضلك ، الواسع بجودك وكرمك ، المعزين من الذل بك ، والمجارين من الظلم بعد لك ، والمعافين من البلاء برحمتك ، والمغنين من الفقر بغناك ، والمعصومين من الذنوب والزلل والخطأ بتقواك ، والموفقين للخير والرشد والصواب بطاعتك ، والمحال بينهم وبين الذنوب بقدرتك ، التاركين لكل معصيتك ، الساكنين في جوارك.
اللهم : اعطنا جميع ذلك بتوفيقك ورحمتك واعذنا من عذاب السعير واعط جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات مثل الذي سألتك لنفسي ولولدي في عاجل الدنيا وآجل الآخرة انك قريب مجيب ، سميع عليم ، عفو ، غفور ، رءوف رحيم ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار .. » 32 لقد وضع الامام العظيم مناهج التربية ، واخلاق الاسلام بهذا الدعاء الشريف الذي هو من نفحات النبوة ، ومن عبقات الامامة ، ومن الصفحات المشرقة من تراث أهل البيت (ع) ، فقد عنى فيه الامام بتربية ابنائه تربية تقوم على تهذيب الاخلاق ، وتطهير النفوس من الزيغ والآثام ... لقد دعا لهم بالصحة في الأديان ، والمعافاة من اقتراف ما حرمه الله ، ودعا لهم بالاستقامة والتوازن في سلوكهم ليكونوا قرة عين له ، وعونا له على شئون هذه الحياة ، ومن الطبيعي أن الأب إنما يسعد بولده فيما إذا استقامت اخلاقه وكان صالحا في هديه وسلوكه ، وأما إذا شذ عن ذلك فانه يحول حياة أبويه الى جحيم لا تطاق.

فى ذمة الخلود

واجهد الامام العظيم نفسه في العبادة ، واخلص فى طاعته لله كأعظم ما يكون الاخلاص ، فلم ير الناس مثله في تقواه وورعه ، وشدة تحرجه في الدين ... لقد كانت حياته مدرسة للتقوى ومدرسة للأيمان ، ومنطلقا للتهذيب والاصلاح ، وقد اكبره الناس أي اكبار لأنه بقية النبوة ، وبقية الله فى أرضه ، فكان السعيد من يراه ، والسعيد من يحظى بمجالسته ، والحديث معه ، وشق ذلك على الامويين الذين كانوا من أحقد الناس على الأسرة النبوية ، فقد هالهم واقض مضجعهم اجماع الناس على اكباره وتحدثهم عن سعة علومه ومعارفه ، وذيوع مثله التي تعنو لها الجباه ، وكان من اعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك فقد روى الزهري ان الوليد قال له : لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا 33 واجمع رأي هذا الخبيث الدنس على اغتيال الامام حينما آل إليه الملك والسلطان ، ونعرض فيما يلي الى ذلك مع ذكر الاحداث التي رافقت سم الامام.

سمه

وقام الوليد بن عبد الملك بأخطر جريمة فى الاسلام ، فقد بعث سما قاتلا الى عامله على يثرب ، وأمره ان يدسه الى الامام34 ونفذ عامله ذلك ، وحينما سقى السم أخذ يعاني اقسى الآلام وأشدها ، وبقي حفنة من الايام على فراش المرض يبث شكواه الى الله ، وتزاحم الناس على عيادته ، وهو (ع) يحمد الله ويشكره على ما رزقه من الشهادة على يد شرار بريته.

نصه على امامة الباقر

وعبد (ع) بالامامة الى ولده الباقر ونص عليه يقول الزهري دخلت إليه عائدا فقلت له :
« إن وقع من أمر الله ما لا بد منه ، فالى من نختلف بعدك؟ » فنظر الامام إليه برفق وقال له :
« الى ابني هذا ـ واشار الى ولده الباقر ـ فانه وصي ووارثي وعيبة علمي ، هو معدن العلم وباقره .. »
« هلا أوصيت الى أكبر ولدك؟ .. »
« يا أبا عبد الله ليست الامامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا رسول الله (ص) وهكذا وجدناه مكتوبا فى اللوح والصحيفة .. »
« يا ابن رسول الله عهد إليكم نبيكم أن تكونوا الأوصياء بعده؟ .. »
« وجدنا في الصحيفة واللوح اثنى عشر اسما مكتوبة في اللوح امامتهم واسماء آبائهم وامهاتهم ، ثم قال : ويخرج من صلب محمد ابني سبعة من الاوصياء منهم المهدي .. » 35 ودخل عليه جماعة من اعلام شيعته فدلهم على أمامة ولده الباقر ، ونصبه مرجعا وعلما لأمة جده ، ثم دفع إليه سفطا وصندوقا فيه مواريث الأنبياء ، وكان فيه سلاح رسول الله (ص) وكتبه 36.

وصيته لولده الباقر

وعهد الامام زين العابدين (ع) الى وصيه وسيد ولده الامام الباقر (ع) بما أهمه وكان من جملة ما أوصى به.
١ ـ إنه قال له : اني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط ، فاذا نفقت فادفنها ، لا تأكل لحمها السباع ، فان رسول الله (ص) قال : ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة ، وبارك في نسله ، ونفذ الامام الباقر ذلك 37.
٢ ـ إنه أوصاه بهذه الوصية القيمة التي تكشف عن الجوانب المشرقة من نزعات أهل البيت (ع) فقد قال له : « يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، فقد قال لي : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله » 38
٣ ـ إنه عهد إليه ان يتولى غسله وتكفينه39 وسائر شئونه حتى يواريه في مقره الأخير.

الى الرفيق الأعلى

وثقل حال الامام ، واشتد به النزع ، وقد أخبر أهل بيته أنه في غلس الليل سوف ينتقل الى جنة المأوى ، وقد اغمي عليه ثلاث مرات فلما أفاق قرأ سورة ( الواقعة ) وسورة ( إنا فتحنا ) ثم قال (ع) : « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين .. » 40.
ثم ارتفعت تلك الروح العظيمة الى بارئها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين ، تحفها ملائكة الرحمن ، وتحفها الطاف الله وتحياته ورضوانه.
لقد سمت روحه الى جنة المأوى بعد أن أضاءت آفاق هذا الكون ، وأشرقت بها عوالم الدنيا ، وذلك بما تركته من سيرة ندية يهتدى بها الحائر ، ويرشد بها الضال.

تجهيزه

وقام الامام أبو جعفر بتجهيز جثمان أبيه فغسل جسده الطاهر ، وقد رأى الناس مواضع سجوده كأنها مبارك الأبل من كثرة سجوده لخالقه ، ونظروا الى عاتقه كأنه مبارك الأبل أيضا ، فسألوا الباقر عن ذلك فأخبرهم أنه من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويضع فيه الطعام ويوزعه على الفقراء والمحرومين.
وبعد الفراغ من غسله أدرجه في اكفانه ، وصلى عليه الصلاة المكتوبة.

تشييعه

وشيع الامام بتشييع حافل لم تشهد له يثرب نظيرا ، فقد شيعه البر والفاجر وبكاه الناس جميعا ، فقد فقدوا بموته الخير الكثير ، وفقدوا تلك الروحانية التي لم يخلق لها مثيل ، وقد ازدحم الناس على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى برفعه ، ومن الغريب ان سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة في المدينة لم يفز بتشييع الامام والصلاة عليه ، وانكر عليه حشرم مولى اشجع ، فقال له سعيد : أصلي ركعتين في المسجد أحب الى من ان اصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح 41 وقد حرم سعيد من الفوز بتشييع الامام الذي هو اتقى انسان خلقه الله بعد آبائه الطاهرين.
فى مقره الأخير
وجيء بالجثمان العظيم في وسط هالة من التكبير والتحميد الى بقيع الغرقد فحفروا له قبرا بجوار قبر عمه الزكي الامام الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة ، وأنزل الامام الباقر جثمان أبيه فواراه في مقره الأخير ، وقد وارى معه البر والتقوى والحلم ، ووارى روحانية الأنبياء والمتقين.
وبعد الفراغ من دفنه هرع الناس نحو الامام الباقر (ع) وهم يرفعون له تعازيهم الحارة ويشاركونه في لوعته واساه ، والامام مع أخوته وسائر بني هاشم يشكرونهم على ذلك.
وانصرف الامام أبو جعفر (ع) إلى بيته بعد أن وارى أباه في بقيع الغرقد وهو غارق في البكاء ، وقد احتف به بنو هاشم ، وابناء الصحابة ، وسائر وجوه المسلمين وهم يذرفون الدموع على الامام زين العابدين ، ويعددون مزاياه ومآثره ، ويذكرون بمزيد من الأسى الخسارة العظمى التي منى بها المسلمون بفقده 42.

 

السجل الجامع لما يخص الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام

  • 1. تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٦.
  • 2. تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠٥ ، وفي الحلية ( ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين ).
  • 3. حلية الاولياء ٣ / ٣٠٩.
  • 4. طبقات الفقهاء ( ص ٣٤ ).
  • 5. تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨.
  • 6. حلية الاولياء ٣ / ١٤١.
  • 7. تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠٥.
  • 8. الامام زين العابدين ( ص ٧٣ ).
  • 9. البداية والنهاية ٩ / ١٠٤.
  • 10. وسيلة المآل في عد مناقب الآل ( ص ٢٠٨ ).
  • 11. صفة الصفوة.
  • 12. وسيلة المآل فى عد مناقب الآل ( ص ٢٠٨ ).
  • 13. مكارم الاخلاق ( ص ١٤٣ ) لرضي الدين الطبرسي./fn]
    تكريمه لطلاب العلوم وكان (ع) يعتني بطلاب العلوم ويرفع مكانتهم ، فاذا رأى أحدا منهم رحب به وقال له : « مرحبا بوصية رسول الله (ص) » ويقول الامام الباقر (ع) كان أبي زين العابدين اذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحبا بكم أنتم ودايع العلم ، ويوشك اذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين الدر النظيم ( ص ١٨١ ) الانوار البهية ( ص ١٠٣ ).
  • 14. البحار ٢ / ٨٣.
  • 15. a. b. الدر النظيم ( ص ١٧٩ ).
  • 16. درر الابكار في وصف الصفوة الاخيار من مصورات مكتبة الامام الحكيم.
  • 17. أعلام الورى ( ص ٣٦٠ ) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص ١٥١ ـ ١٥٢ ) الدر النظيم ( ص ١٨٠).
  • 18. الامام زين العابدين ( ص ٧٢ ـ ٧٣ ) لاحمد فهمي ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ١٤٨.
  • 19. a. b. c. حلية الاولياء ٣ / ١٣٦.
  • 20. دعائم الاسلام ٢ / ١٨٨.
  • 21. دعائم الاسلام ٢ / ١٥٦.
  • 22. نهاية الارب ٢١ / ٣٢٧ ـ ٣٣١.
  • 23. حياة الامام الحسين ٣ / ٣٢٧.
  • 24. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 22 و 23، الصفحة: 509.
  • 25. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 25، الصفحة: 252.
  • 26. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 57، الصفحة: 426.
  • 27. الاتحاف بحب الأشراف ( ص ٥٠ ).
  • 28. تحف العقول ( ص ٢٨٢ ).
  • 29. وسائل الشيعة ٣ / ٢٣٢.
  • 30. أثرت هذه الكلمة الذهبية في كثير من المصادر الى الامام الباقر.
  • 31. كفاية الأثر ( ص ٣١٩ ) للخزاز.
  • 32. الصحيفة السجادية دعاء (٢٥).
  • 33. حياة الامام علي بن الحسين ( ص ٤٢٦ ).
  • 34. نور الابصار ( ص ١٢٩ ) الفصول المهمة لابن الصباغ ( ص ٢٣٣ ) الاتحاف بحب الاشراف ( ص ٥٢ ) الصواعق المحرقة ( ص ٥٣ ) جدول مصباح الكفعمي ( ص ٢٧٦ ).
  • 35. كفاية الأثر للخزّاز ، اثبات الهداة ٥ / ٢٦٤.
  • 36. بصائر الدرجات ( ص ١٤٦ ) اثبات الهداة ٥ / ٢٦٨.
  • 37. محاسن البرقي ٢ / ٦٣٥.
  • 38. الخصال ( ص ١٨٥ ) الامالي ( ص ١٦١ ).
  • 39. الخرائج ( ص ٢٠ ).
  • 40. روضة الكافي.
  • 41. رجال الكشي ( ص ٧٦ ).
  • 42. المصدر: كتاب حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل للعلامة الشيخ باقر شريف القرشي رحمه الله.