حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
موقف الامام الحسين عليه السلام في عهد معاوية
وبعد الرسول حيث ازدحمت الحوادث واختلفت النعرات نراه يقف جنباً إلى جنب مع والده العظيم في قضية الحق ويُعلنها في أوضح برهان. والمسلمون هناك، يهتدون على من يهتدون.
ومرة أخرى نلتقي بالحسين عليه السلام وهو شاب يمثل شمائل أبيه المهيبة، ويقود الجيوش المزمجرة ضد طاغية الشام معاوية بن أبي سفيان.
وتتم على مضاء عزمه، ومضاء سيفه، وسداد فكره، وسداد خططه انتصارات باهرة ضد الطغيان الأموي الذي أراد أن يرجع بالأمة الإسلامية إلى جاهليتها الأولى، وقد فعل.
ثم تُدَبَّرُ مؤامرة لئيمة لاغتيال الإمام علي عليه السلام وينتهي الأمر بمصرعه الفاجع، وتُلقي الأمة بأبهض مسؤولياتها وأخطرها على كاهل الإمام الحسن عليه السلام، فيمارس الإمام الحسين جهاده المقدس في أداء أمانة الحق، ومسؤولية الأمة، ويُحرِّض الشعب الإسلامي ضدَّ الباطل المحتشدة كل قواه في عرصات الشام، ويُحذِّره من كل ما يُرتقب من مآسٍ وويلات على يد الطاغية إن تَمَّ له الأمر.
وينتهي دور الإمام الحسن فيُقتل بسمٍّ يَدُسُّه إليه طاغية الشام.
فتقع دفة الخلافة الإلهية بيد الحسين عليه السلام ويُتابعه المسلمون الواقعيون الذين لم يشاهدوا في بني أمية إلَّا مُلكاً عضوضاً كلّ همّه القضاء على مقدسات الأمة ومشاعرها في آن واحد.
نعم، انتقلت الإمامة إلى رحاب الحسين عليه السلام في أوائل السنة الخمسين من الهجرة النبوية، وَلَنُلْقِ نظرة خاطفة على الوضع السائد في البلاد الإسلامية آنذاك.
في السنة الحادية والخمسين: حج معاوية إلى بيت الله الحرام ليرى من قريب الوضع السياسي في مركز الحركة المناوئة لخلافته، حيث إن الحرمين كانا مَقَرَّي الصحابة والمهاجرين، وهم أبغض خلق الله لمعاوية؛ لأنهم أشدهم خلافاً عليه.
فلما طاف بالبلاد المقدسة عرف أن الأنصار بصورة خاصة يبغضونه ويكرهون خلافته على أشد ما تكون الكراهية والبغض.
وذات يوم سأل الملأ حوله: ما بال الأنصار لم يستقبلوني؟
فأجابه طائفة من زبانيته: إنهم لايملكون من الإبل ما يستطيعون استقبالك عليها.
وكان معاوية يعرف الحقيقة من برودة تَلَقِّي الأنصار مجيئه، فحينما سمع هذا الجواب الروتيني لمز وغمز وقال: ما فعلت النواضح؟. أراد الاستهزاء بساحة الأنصار، بأنهم كانوا ذات يوم من عمال اليهود في المدينة، أصحاب إبل تنضح الماء لبساتين اليهود.، وكان في الحاضرين بعض زعماء الأنصار، وهو قيس بن سعد بن عبادة، فأجابه قائلًا:
أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى الله عليه واله، حيث ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون. أما إن رسول الله صلى الله عليه واله عهد إلينا أَنَّا سَنَلْقيي بعده أَثَرَةً.
ثم جاش صدر قيس فاندلعت منه شرارة فيها ذكريات الماضي الزاهر، وعواصف هذا اليوم الأسود، فقال وأمعن في إيضاح سوابق بني أمية ولواحقهم، وشرح ما كان من وقوفهم ضد الدعوة النبوية أول يوم وما كان من إنكارهم حق عليٍّ عليه السلام بعد ذلك، وما كان من أمر معاوية بالذات مع إمام زمانه، وما جاء عن لسان النبي صلى الله عليه واله من الأحاديث بشأن علي، الذي افترضه معاوية مناوئه الوحيد على كرسي الحكم.
ولم يدرِ قيس ذلك اليوم ما الذي كان يحمله معاوية من بغض وكره، سوف يحدوان به إلى ما لا تحمد عواقبه.
ورجع معاوية يُفَكِّر في إجراء التدابير اللازمة ضد مناوآت الأنصار والمهاجرين. وأول خطة اتخذها هي التي سوف يُتلى عليك تفصيلها.
وعرف معاوية أن في البلاد الإسلامية كثرة واعية من المفكرين الذين محضوا عن تجارب الماضي القريب، ولمسوا حقيقة أمر الحزب الأموي الحاكم، كما آمنوا بقداسة الحق، وبوجوب متابعته، والدفاع عن نواميسه السامية مهما كلفهم الأمر.
وعرف كذلك أنه يستقر في مركز حركة هؤلاء الذين ناوؤوه، عليٍّ أولًا والحسن ثانياً، وهذا الإمام ثالثاً. ثم عرف أيضاً ما لهذا البيت العلوي من دعائم وطيدة، ومؤهلات كافية تنذر عرش الأمويين بالفناء العاجل.
فمن هنا بدأت خطته اللئيمة، ففكر في أن من يحب عليًّا وآل عليٍّ لا شك في أنه يستاء من مُلك بني أمية. إذاً فلنقلع حب الإمام أولًا من صدور الشعب المسلم، ولنستأصل مقاييس المسلمين التي يُميِّزون بها الحق من الباطل، أَلَا وهي تَمَثُّل الإسلام الحق في بيت الرسالة.
فأخذ يكتب إلى كل والٍ له في أطراف البلاد برسالة إليك نصها بالحرف:
«أَمَّا بَعْد، انْظُرُوا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ يُحِبُّ عَلِيًّا وَأَهْلَ بَيْتِهِ فَامْحُوهُ مِنَ الدِّيوَان، وَأَسْقِطُوْا عَطَاءَهُ وَرِزْقَهُ» 1. «وَلَا تُجِيزُوا لَهُ شَهَادَةً» 2.
وهذه أول محنة واجهها أنصار عليٍّ الذين كانوا يُشكِّلون الجبهة المناوئة للحزب الأموي الحاكم. وقد كانت جبهةً شديدةً عنيفةً جدًّا.
ثم راح معاوية في ظلمه يخطو خطوة أخرى، أقسى من الأولى وأعنف كثيراً، فكتب إلى ولاته يقول: أما بعد، خذوهم على الظنة، واقتلوهم على التهمة.
ففكِّروا في هذه الكلمة: (اقتلوهم على التهمة) فهل تعرفون أقسى منها في قاموس المجرمين وأعنف حكماً؟!
في مثل هذا الجو الرهيب كان يعيش الإمام الحسين عليه السلام وهو يتقلد منصب الخلافة الإلهية. ولا شك في أنه كان يؤلمه الشوك في طريق أصحاب الحق على الظنة، وإبادتهم بالتهمة.
ولكنَّ الظروف التي كان يعيشها لم تكن بالتي تُجيز له المقاومة المسلحة ضد العدوان الأموي الأرعن؛ لأن معاوية كان يعالج الأمر بالمكر والخدعة، ويخدّر أعصاب الأمة بالأموال الطائلة من ثروة الدولة التي إن لم تُعطِ الفائدة فهناك شيء كان يسميه بجنود العسل، ويقصد به الغدر بحياة الشخصيات عن طريق السم يُدِيْفُهُ في مطعمه أو مشربه، كما فعل ذلك بالإمام الحسن عليه السلام بواسطة زوجته الغادرة، وكان يستعمله دائماً ضدّ أولئك العظماء الذين لا يخضعون لسُلطان المال والمنصب.
إما إذا استعصى عليه الإغراء بالمال أو القضاء بالسم، فيأتي دور القوَّة التي كان يستعملها دون رحمة في مناسبة وغير مناسبة.
وبهذه الوسيلة الأخيرة قضى على الصحابي الكبير والزعيم الشيعي القدير: حِجْر بن عَدِيّ، حيث استدعاه هو وأصحابه إلى الشام، وقبل أن يصلوا إلى العاصمة أرسل سرية من شرطته فقتلت بعضهم ودفنت بعضهم أحياءً بغير جرم إلَّا أنهم كانوا أصحاب عليٍّ عليه السلام وقُوَّاد جيشه.
وكان مقتل حجر هذا منبِّهاً فعّالًا، للشعب الإسلامي الذي دعا إلى إعلان التمرد، حتى من بعض أصحاب الأمويين كوالي خراسان ربيع بن زياد الحارثي، حيث جاء المسجد ونادى بالناس ليجتمعوا، فلما اكتمل اجتماعهم قام خطيباً وذكر المأساة بالتفصيل وقال: إن كان في المسلمين من حمية شيء لوجب عليهم أن يطالبوا بدم حِجْرٍ الشهيد.
وحتى من مثل عائشة التي كانت بالأمس في الصف المخالف لعلي عليه السلام فإنها لما سمعت الفاجعة قالت: أما والله لقد كان لجمجمة العرب عز ومنعة، ثم أنشدت:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجربِ 3
ومشت في الأوساط السياسية رجَّة تبعتها اضطرابات جعلت معاوية يندم من سوء فعله لأول مرة.
ولكن لم يكن مقتل حِجْر بالوحيد من نوعه، فقد رافقه مقتل الصحابي الكبير المعترف به لدى سائر المسلمين عمرو بن الحمق، الذي حُمل رأسه على الرمح لأول مرة في تاريخ الإسلام، حيث لم يُحمل فيه قبل ذلك اليوم رأس مسلم قط.
وتبع حادثة حِجْر وأصحابه الستة عشر حوادث مرعبة نشرت على دنيا المسلمين التوتر والاضطراب.
ويمكننا أن نكشف عن بعض مظاهر هذا التوتر بما يلي:
لقد سيطر زياد ابن أبيه على الكوفة والبصرة، ولقد كان متشيعاً قبل أن يُلحقه معاوية بنسبه، فكان يعرف أسرار الشيعة وخباياهم وزعماءهم وقادتهم. فلما استتب له الأمر راحَ يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ويُمعن فيهم القتل والتنكيل حتى ليَقول الرجل: أنا كافر لا أؤمن بنبيٍّ خير له من أن يقول: إني شيعي أؤمن بقداسة الحق وأكفر بالجبت والطاغوت.
فلما ضبط العراقيين إرهاب بني أمية رفع زياد كتاباً إلى البلاط الملكي هذا نصه بالحرف: «إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة. فولني الحجاز أشغل يميني به»
. ولما أُذيع نبأ هذه الرسالة في المدينة المنورة اجتمع المسلمون في المسجد النبوي وابتهلوا إلى الله ضارعين: اللهم اكفنا يمين زياد.
ولسنا بصدد بيان أنه كفّ الله عنهم يمين زياد فعلًا، حيث أصابه الطاعون فمات ذليلًا، إلَّا أننا بصدد أن نعرف مدى الإرهاب المخيم على الأوساط السياسية حتى أن الناس يجتمعون للدعاء ضد والٍ واحد، رهيب الجانب، مرعب السلطة.
وإذا سألت عن موقف السبط، فنحن لا يهمنا من هذا الاستعراض الخاطف للأوضاع السياسية في عهد معاوية إلَّا لنعرف موقف الإمام الحسين عليه السلام منها.
ونستطيع أن نلمس موقفه بصورة إجمالية، إذا مضينا نفكر في هذه القضايا الثلاث، التي سنتلوها تباعاً:
1- كانت الأنباء تتوالى على المدينة بنكبات فجيعة، نزلت على رؤوس المسلمين بسبب مدحهم للإمام علي عليه السلام وبسبب تشيُّعهم لأهل البيت عليهم السلام تماماً بعد إعلان معاوية حكمه الصارم: كل من نقل فضيلة عن علي فَقَدَ الأمان على نفسه وماله!.
وكان ذلك في مستهل السنة الواحدة والخمسين بعد الهجرة النبوية. فدبر الإمام خطة جريئة نفذها بنفسه، فجمع الناس في محفل ضم من بني هاشم رجالًا ونساءً ومن أصحاب رسول الله، ومن شيعته أكثر من سبعمائة رجلٍ، ومن التابعين أكثر من مائتين، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ (يعني معاوية بن أبي سفيان) قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي وَإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي، وَأَسْأَلُكُمْ بِحَقِّ اللهِ عَلَيْكُمْ وَحَقِّ رَسُولِهِ صلى الله عليه واله وَقَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّكُمْ عَلَيْه وَآلِهِ السَّلَامُ لَمَّا سَتَرْتُمْ مَقَامِي هَذَا وَوَصَفْتُمْ مَقَالَتِي وَدَعَوْتُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَمْصَارِكُمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ مَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاس.
اسْمَعُوا مَقَالَتِي وَاكْتُبُوا قَوْلِي ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَمْصَارِكُمْ وَقَبَائِلِكُمْ، وَمَنِ ائْتَمَنْتُمُوهُ مِنَ النَّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ فَادْعُوهُ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَدْرُسَ 4 هَذَا الحَقُّ وَيَذْهَبَ الحق ويُغلب ﴿ ... وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ 5».
ثم مضى الإمام في الخطبة القوية الهادرة، يُذكِّر الجمع بعليٍّ عليه السلام، وفي كل مقطوعة يصبر هنيئة فيستشهد الأصحاب والتابعين على ذلك، وهم لايزيدون على اعترافهم قائلين: اللهم نعم .. اللهم نعم.
حتى مَا تَرَكَ شَيْئاً مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ فِيهِمْ إِلَّا قَالَهُ وَفَسَّرَهُ، وَلَا شَيْئاً قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله فِي أَبِيهِ وَأَخِيهِ وَأُمِّهِ وَفِي نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا رَوَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُهُ: اللَّهُمَّ ونَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا وَشَهِدْنَا، وَيَقُولُ التَّابِعُونَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَدْ حَدَّثَنَا مَنْ نُصَدِّقُهُ وَنَأْتَمِنُهُ من الصحابة 6.
أما وقد أشهدوا الله على ذلك قال: «أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ إِلَّا حَدَّثْتُمْ بِهِ مَنْ تَثِقُونَ بِهوَبِدِيْنِهِ ...» 7.
وكانت هذه خطة مناسبة للحدّ من طغيان معاوية في سبّ علي عليه السلام، بل كانت خطة معاوية لسياسة بني أمية قاطبة الذين ارتأوا محو سطور في التاريخ هي أسطع ما فيه وأروع ما يحتويه، ألا وهي مآثر أهل بيت الرسالة ولم يكتفِ بنو أمية في محوها بالقوة فقط بل لعبت خزينة الدولة دوراً بعيداً في ذلك أيضاً.
فقد كان الحديث يُشترى ويُباع كأي متاع آخر، وكان المحدِّثون أوسع الناس ثروة أو أنكاهم نقمة. إن رضوا فلهم كل شيء، وإن أبوا فعليهم كل شيء.
ربما كان معاوية، وهو الداهية المعروف، ينتظر من الإمام الحسين عليه السلام ذلك الاستنكار البالغ، بيد أنه لم يكن يفكّر في أن الأمر سوف يدبّر على هذا الشكل المرعب. وعلى أي حالٍ فقد كان الأمر مرتقباً.
ولكن حدث بعد هذا التظاهر الصارخ أمر لم يكن معاوية يحلم به أبداً:
2- إن عيراً لوالي اليمن كانت محملة بأنواع الأمتعة إلى البلاط الملكي لتوزع على أصحاب الضمائر المستأجرة.
ومرَّت هذه العير بالمدينة فاستولى عليها الإمام عليه السلام وامتلكها حقًّا شرعيًّا له، ليصرفه في مواقعه اللازمة.
وكتب إلى معاوية رسالة أرغمت أنفه وأطارت لُبَّهُ، وهذا نص الرسالة:
«مِنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَىْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِيْ سُفْيَان. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عِيْراً مَرَّتْ بِنَا مِنَ اليَمَنِ تَحْمِلُ مَالًا وَحُلَلًا إِلَيْكَ لِتُوْدِعَهَا خَزَائِنَ دِمَشْقَ، وَتَعُلُّ بِهَا بَعْدَ نَهْلٍ بِبَنِيْ أَبِيْكَ، وَإِنِّيْ احْتَجْتُ إِلَيْهَا وَأَخَذْتُهَا وَالسَّلَامُ.» 8.
وأول ما لفت نظر معاوية من هذه الرسالة تقديم الإمام الحسين عليه السلام اسمه واسم أبيه على ذكر معاوية، ثم دعاؤه له باسمه الشخصي دون أن يشفعه بلقب «أمير المؤمنين»، ويعتبر ذلك في منطق القرون الأولى تحدياً بليغاً لسلطة معاوية، بل يُؤَكَّدُ هذا في أن الكاتب قد خلع عن نفسه الرضوخ لسلطان الدولة الباطلة.
ثم جلب انتباهه موضوع أخذ اليد، وفيه أبلغ دليل على التمرد على السلطة الحاكمة.
بيد أن معاوية بدهائه عرف أن الظروف لا تقتضي إلَّا الإغماض عن أمثال هذه الأعمال، ولم يكن الإمام عليه السلام يريد أن يبتدئ بإعلان التمرد المسلح لأنه كان حريصاً على حفظ دماء المسلمين كحرصه على نشر الحقيقة.
فكتب إليه معاوية: في منطق مستعتب وبيّن أنه عارف بمكانته، وجليل شأنه، وأنه لا يريد أن يمس ساحته بسوء. بيد أن خَلَفَهُ من بعده سوف يكون له بالمرصاد.
ومضى الحسين عليه السلام في توطيد دعائم الحقيقة، ببث الوعي، وجمع الأنصار، ولا زالت الأنباء تتوارد على البلاط الملكي بشأن الإمام، وأنه يُعِدُّ العِدَّة لثورة فاصلة.
بيد أن معاوية كاد يُتِمُّ الأمر بالخدعة قبل أن يدبر النقمة لعدم مؤاتاة الظروف للساعة المرتقبة، فكتب رسالة أخرى إلى الإمام يستعتب ويُؤَنِّب، ويُذكّر بالصلات الودية بينه وبين الإمام عليه السلام.
ولكن الإمام الحسين عليه السلام كان يعلم بالفجائع التي كانت تنقضّ على رؤوس الشيعة من محبي آل الرسول في كل بلد.
3- فكتب إليه برسالة أخرى يسرد فيها أعماله واحداً تلو الآخر:
«.. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَكَ عَنِّي أُمُورٌ أَنْتَ لِي عَنْهَا رَاغِبٌ، وَأَنَا بِغَيْرِهَا عِنْدَكَ جَدِيرٌ، فَإِنَّ الحَسَنَاتِ لَا يَهْدِي لَهَا وَلَا يُسَدِّدُ إِلَيْهَا إِلَّا اللهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَقَاهُ إِلَيْكَ المَلَّاقُونَ المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمِ، وَمَا أُرِيدُ لَكَ حَرْباً وَلَا عَلَيْكَ خِلَافاً. وَايْمُ إِنِّي لَخَائِفٌ للهِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَمَا أَظُنُّ اللهَ رَاضِياً بِتَرْكِ ذَلِكَ، وَلَا عَاذِراً بِدُونِ الْإِعْذَارِ فِيهِ إِلَيْكَ، وَفِي أُولَئِكَ الْقَاسِطِينَ المُلْحِدِينَ حِزْبُ الظَّلَمَةِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ. أَلَسْتَ الْقَاتِلَ حُجْراً أَخَا كِنْدَةَ، وَالمُصَلِّينَ الْعَابِدِينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الظُّلْمَ، وَيَسْتَعْظِمُونَ الْبِدَعَ، وَلا يَخافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، ثُمَّ قَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْوَاناً مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتَ أَعْطَيْتَهُمُ الْأَيْمَانَ المُغَلَّظَةَ، وَالمَوَاثِيقَ المُؤَكَّدَةَ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ بِحَدَثٍ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَلَا بِإِحْنَةٍ تَجِدُهَا فِي نَفْسِكَ؟!.
أَوَلَسْتَ قَاتِلَ عَمْرِو بْنِ الحَمِقِ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله، الْعَبْدِ الصَّالِحِ الَّذِي أَبْلَتْهُ الْعِبَادَةُ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، وَصُفِّرَتْ لَوْنُهُ، بَعْدَمَا أَمَّنْتَهُ وَأَعْطَيْتَهُ مِنْ عُهُودِ اللهِ وَمَوَاثِيقِهِ، مَا لَوْ أَعْطَيْتَهُ طَائِراً لَنَزَلَ إِلَيْكَ مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ، ثُمَّ قَتَلْتَهُ جُرْأَةً عَلَى رَبِّكَ وَاسْتِخْفَافاً بِذَلِكَ الْعَهْدِ؟!.
أَوَلَسْتَ المُدَّعِي زِيَادَ ابْنَ سُمَيَّةَ المَوْلُودَ عَلَى فِرَاشِ عُبَيْدِ ثَقِيفٍ؛ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ابْنُ أَبِيكَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»؛ فَتَرَكْتَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ تَعَمُّداً، وَتَبِعْتَ هَوَاكَ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ، ثُمَّ سَلَّطْتَهُ عَلَى الْعِرَاقَيْنِ: يَقْطَعُ أَيْدِي المُسْلِمِينَ وَأَرْجُلَهُمْ، وَيَسْمُلُ أَعْيُنَهُمْ، وَيُصَلِّبُهُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ؛ كَأَنَّكَ لَسْتَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيْسُوا مِنْكَ؟!.
أَوَلَسْتَ صَاحِبَ الحَضْرَمِيِّينَ، الَّذِينَ كَتَبَ فِيهِمُ ابْنُ سُمَيَّةَ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكَتَبْتَ إِلَيْهِ: أَنِ اقْتُلْ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ عَلِيٍّ؛ فَقَتَلَهُمْ وَمَثَّلَ بِهِمْ بِأَمْرِكَ ..» 9.
إلى آخر الكتاب الذي كان سوط عذاب يُلهب متن معاوية ومن دار في فلكه من المنحرفين.
وهكذا عاش الإمام عليه السلام الصوت الوحيد الذي غدا يرعد أمام كل بدعة، والسوط الفارع الذي بات يسوِّي كل تخلّف أو تطرّف في المجتمع، فلطالما حرّض ذوي الفكر والجاه، وأثارهم على حكومة الضالين، بيد أنهم فضَّلوا مصالح أنفسهم على مصالح الدين، ولم يحفظوا ذممهم، في حين راحت ذمة الإسلام ضحية كل فاجر.
ولطالما خاطر الإمام الحسين عليه السلام بوقوفه أمام اعتداءات بني أمية على مصلحة الأمة الإسلامية، وعلى مقدسات الدين ونواميسه.
والواقع أننا لو أردنا أن نتصور الوضع الديني في عصر الإمام خالياً منه ومن جهاده، لكنَّا نراه أحلك عصر مرّ به المسلمون، وأقساه وأعنفه. ولو كنَّا نتصور الإسلام وقد مرّ به ذلك العصر دون أبي عبدالله عليه السلام لكنَّا نراه أضعف دين وأقربه إلى الانحراف.
فلم يكن هناك من قوّة تستطيع الوقوف أمام المد الأموي الأسود، إلَّا شخص أبي عبد الله عليه السلام ومن دار في أُفُقِهِ من الأنصار والمهاجرين، لأن الحروب التي سبقت عصر الإمام أعلنت عن تجارب سيئة جدًّا، واختبارات فظيعة لقوى الخير في المسلمين، وما كان من شتيتها موجوداً لفّته زوابع الترهيب، وأعاصير الترغيب، فراحت مع التي راحت أولًا.
وبقي المحامي والنصير الأول والأخير للإسلام، وهو الإمام الحسين عليه السلام الذي استطاع بسداد رأيه، ومضاء عزمه، وسبق قدمه، وسمو حسبه ونسبه، وما كان له من مؤهلات ورثها من جده رسول الله وأبيه علي أمير المؤمنين عليهما السلام، استطاع بكل ذلك أن يُشكِّل جبهة قوية نسبيًّا أمام الطغيان الأموي الوسيع.
وكان ذلك شأنه في عصري معاوية ويزيد.
وها نحن قد استعرضنا جانباً موجزاً من عصر معاوية، وسوف نستعرض شيئاً قليلًا عن عصر يزيد، في الفصل الأخير، ولن نذهب في سرد القضايا تفصيلًا، بل نجعلها موجزةً لسببين:
أولًا: اشتهار نهضته العظيمة في عهد يزيد حتى كاد يعيها كل شيعي مؤمن.
وثانيا: لأن ذلك يحتاج إلى موسوعة علمية كبيرة تحلل القضايا السياسية والدينية التي رافقت نهضة الحسين عليه السلام ليُظفر من ذلك بأروع أمثلة الجهاد وأرفعها.
وهكذا يحق لنا أن ندع البحث أبتر، لندخل بحوثاً أخرى، نتكلم فيها حول السمات الشخصية لسيد الشهداء الحسين عليه السلام، تاركين جانب الدين والسياسة لمجال أفسح، وفي بحث أوسع 10.
- 1. شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 44.
- 2. بحار الأنوار، ج 33، ص 180..
- 3. العقد الفريد، ج 2، ص 65.
- 4. يُمحى ويضمحل.
- 5. القران الكريم: سورة الصف (61)، الآية: 8، الصفحة: 552.
- 6. هذه المقطوعة من قول الراوي للحديث.
- 7. بحار الأنوار، ج 33، ص 182.
- 8. شرح نهج البلاغة، ج 18، ص 409.
- 9. بحارالأنوار، ج 44، ص 212- 213
- 10. المصدر: الإمام الحسين عليه السلام: قدوة و أسوة، لآية الله السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته.