الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

محمد المصطفى (ص) صاحب الخُلق العظيم

تعدّد الزوجات

لقد حسب العدو أنه يستطيع أن يتخذ من تعدد زوجات النبيِّ صلى الله عليه واله نقطة ضعف ليفتري منها عليه من يشاء.

بيد أن الدراسة الواعية لتاريخ النبيِّ صلى الله عليه واله، توحي بالفلسفة الواقعية لزيجات رسول الإسلام، فإذا هي من صميم أخلاقه الطيبة، ومن مظاهر إنسانيته ونشاطاته الدينية المقدسة.

ونحن إذ لا نستطيع أن نوجز ما يحتاج إلى سِفْرٍ في صفحة، نأمل أن نُشير إلى موجز من فلسفة زيجات النبي صلى الله عليه واله، ومجملها أُبيِّنه فيما يلي:

1- إن الرسول صلى الله عليه واله لم يتزوج في شبابه حينما تبلغ غريزة الإنسان الجنسية منتهاها. بل اكتفى بالسيدة خديجة وهي- كما يعلم الجميع- كانت امرأة ثَيِّباً، ولم يتزوج بامرأة بِكْرٍ إلَّا بعائشة، وذلك حيث لم تكن له زوجة، وكان بدء التبليغ الإسلامي وتأسيس شرائعه التي كانت تخالف الرهبانية المسيحية التي تحظر الزواج. وكان النبي يريد أن يكون عاملًا قبل أن يكون قائلًا ليكون أسوة حقة للمسلمين؟
2- إن الرسول صلى الله عليه واله تزوج بنساء (أرامل) كانت العادة العربية تنبذهن نبذاً، فتذهب الأرملة إما فاجرة أو فقيرة (معدمة). أولئك الأرامل اللاتي كانت الحروب الإسلامية تكثر منهن. كما أنه تزوج بنساء لكي يستميل أهلهن إلى الإسلام.

فمن القسم الأول: أم سلمة وسودة بنت زمعة ورملة أم حبيبة وحفصة بنت عمر وميمونة وغيرهن.

ومن القسم الثاني: صفية بنت ثابت أحد زعماء اليهود، ولعل النبي تزوج بها لتأليف قلوب اليهود الذين هُدّمت حصونهم، وأُبيد مجدهم. وجويرة التي تزوجها بعد هزيمة أربابها في غزوة بني المصطلق، فأعتق بسببها كل من أسر من بني المصطلق، وأسلموا ببركة هذا الزواج الميمون. أضف إلى ذلك كله أن النبيَّ صلى الله عليه واله لم يبعث إلى الرجال فقط بل إلى النساء أيضاً فكان يتصل هو مباشرة بالرجال وبالنساء فيربيهم ويهذب نفوسهم. فإن لم يكن يتزوج هذا المقدار لم تتح له الفرصة الكافية للاتِّصال بالنساء إلَّا من بعيد. وهو لا يكفي في تربية المرأة التي تؤهل لقيادة النساء فكريًّا وتربويًّا.

ومع أن الرسول صلى الله عليه واله تزوج بهؤلاء النساء المختلفات الجنسية، فقد استطاع أن يكون المثل الأعلى في تدبير الشؤون العائلية مع ما كان له من مشاكل اجتماعية بالغة التعقيد.

أما في سائر الشؤون فقد استطاع النبيُّ صلى الله عليه واله بفكره وسعة صدره، وحسن تدبيره، وبما آتاه الله من تفوُّق كامل على جميع الناس في جميع العصور، لقد استطاع: أن يُكَوِّنَ- وهو اليتيم المطارَد- من جحيم الصحراء العربية، جنة البلاد الإسلامية، ومهد الحضارات الإنسانية.
ومن أهلها شر أهل الأرض وأسوئهم خُلقاً ومبدأً وعادات، كوَّن منهم قادة العالم وسادته على طول الخط، كما سبق تفصيل بعض أحداثه آنفاً. أفلا يدلّ هذا على حسن التدبير، وسعة التفكير، وجميل السيرة والاكتمال في السمو النفسي والعقلي.

أما إذا تكلَّمنا عن رحابة الصدر وسعة النفس في مجال التدبير للشؤون الخاصة والعامة- إلى سائر مظاهر السمو النفسي والخلقي- فإنا يجب أن نعترف بالعجز عن التعبير الكامل عن كل جوانب التفوق والتسامي في الأخلاق بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه واله، الذي جعله الله خاتم النبيين الذين كانوا قادة النّاس وسادتهم في كِلَا الحقلَين المادي والروحي.

ولقد احتج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعجز الإنسان عن التعبير الكامل عن أخلاق النبيّ صلى الله عليه واله، احتج لذلك احتجاجاً لطيفاً بأن الله يقول في كتابه: ﴿ ... وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ... 1، في حين يقول في آية أخرى: ﴿ ... فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ 2 ، فالحياة الدنيا مع أنها قليلة عند الله، فإنها لا يمكن الإحاطة بها، وإحصاء ما فيها .. فكيف بأخلاق النبي صلى الله عليه واله الذي يقول فيه الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ 3 ، حيث عبّر عنه بالعظيم. فإذا لم يكن إحصاء القليل ممكناً فكيف يمكن إحصاء العظيم.

ومع كل ذلك فإني أسرد لك شيئاً من مظاهر الْخُلُق العظيم، تاركاً الشيء الكثير منه.

كان النبي صلى الله عليه واله أشجع، وأحلم، وأعدل، وأعف، وأسخى الناس جميعاً، وكان لا يبيت عنده دينار ولا درهم.

وكان أزهد الناس، وأبسطهم في العيش، حيث كان يخصف النعل ويرقع الثوب، ويخدم في البيت مع سائر أهل بيته.

وكان أشد الناس حياءً، فلا يثبت بصره في وجه أحد أبداً.

وكان أسمح الناس وأسهلهم، وكان يُجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، ويكافئ عليها أحسن مكافأة، وكان لا يستكبر عن اجابة أَمَةٍ أو مسكين.

وكان يغضب لله ولا يغضب لنفسه؛ ويُجري حكم الله وإن تضرَّر هو أو أحد من أصحابه به. فقد أشار عليه أصحابه ذات مرة بأن ينتصر على أعدائه المشركين بسائر المشركين، فأبى قائلًا: «لَا نَسْتَنْصِرُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ» 4 مع أنه كان أحوج ما يكون إلى ذلك.

وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، فإذا حضر الأكل، أكل ما وجد ولم يردّ شيئاً. وكان متواضعاً في أكله، فلا يأكل مُتوكِّئاً، ولا على خوان، ويؤاكل المساكين، ويجالس الفقراء، ويكرم أهل الفضل، ولا يجفو أحداً.

أما في شؤونه الاجتماعية، فكان يعود المريض كائناً من كان وكيف كان، ويشيّع الجنائز، ويمشي وحده ولا يتخذ حاشية أبداً. ويركب ما حضر إن فرساً، أو بغلةً، أو حماراً، إن حافياً أو ناعلًا، مع الرداء حيناً،

وحيناً بلا رداء وبلا عمامة ولا قلنسوة. ولكنه كان يسير بمظهر القوة لا الضعف، فإذا مشى اقتلع رجليه عن الأرض اقتلاعاً حتى كأنه ينحدر من علٍ.

وكان يحب الطِّيب حبًّا جمًّا، وكان له عبيد وإماء، ولكن لم يكن يترفع عليهم أبداً.

وكان لا يمضي عليه وقت ليس في طاعة الله.

وكان يبدأ مَنْ لقيه بالسلام، ومن قام معه في حاجة سايَرَه حتى يكون هو المنصرف.

وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ يده وشابكه ثم قبض عليها.

وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلِّي إلَّا خفَّف صلاته والتفت إليه قائلا: ألك حاجة؟. فإذا تمت حاجته قام إلى صلاته.

وكان أكثر جلوسه جلسة التواضع وهي أن يرفع ساقيه ويمسكها بيديه، ويجلس حيث ينتهي به المجلس. وما رؤي قط مادًّا رجليه بين أصحابه، وكان أكثر ما يجلس يستقبل القبلة. وكان يُكرم مَنْ يدخل عليه؛ حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبين الرسول قرابة. وكان يُؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تكون تحته فإن أبى عزم عليه حتى يقبل.

وما استصغاه أحد إلَّا ظن أنه أكرم الناس عليه، حتى أنه كان يُعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه ونظره.

ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم وتعظيماً، فإذا لم يكن لأحد كنية كنّاه من جديد حتى يُكنَّى بها.
والمرأة إن كان لها ولد كنَّاها به، وإن لم يكن لها ابتدأ بكنية لها جديدة. حتى الصبيان فإنه كان يكنيهم. وكان أبعد الناس غضباً على أحد، وأسرعهم رضاً، وأرقهم لهم قلباً، وخيرهم لهم نفعاً.

وكان إذا جلس مجلساً قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إِلَيْكَ» 5.

وكان إذا جلس بين أصحابه لا يُعرف أيهم محمد صلى الله عليه واله لاختلاطه بهم. فلما كثر الوافدون الذين كانوا يسألون عنه أمام عينيه قائلين: أيُّكم محمد!. صنع له دكة من طين. وكان يقول: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ!.

أما صلته بربه فلقد كان نبيَّ الإسلام، أخشى الناس لربه، وأتقاهم له، وأعلمهم به، وأقواهم في طاعته، وأصبرهم على عبادته، وأكثرهم حبًّا له، وأزهدهم فيما سواه. فكان يصلِّي حتى انشقت بطن قدَميه من كثرة الصلاة. فإذا وقف إلى الصلاة انهمرت دموعه، وارتجت البقعة بنشيجه وضراعته. وكان يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال: إنه لا يصوم. وكان نظيف الجسم، طاهر الثياب، يرجّل جمته، ويسرّح لحيتَه، ويستاك، ويعطِّر جسده، حتى كان يشم منه الرائحة الطيبة من بُعد، ويعرف الشخص الذي يصاحبه أو يجالسه أنه قد التقى به بما يسري منه إليه من العطر. ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويُركب الراجل، ويُعين ذا الحاجة فيها، ويقضي دين المَدين.

وكان أشجع الناس، حتى قال الإمام علي عليه السلام: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه واله وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُو، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْساً» 6.
وقال عليه السلام أيضاً: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ» 7. وكان أجود الناس كفًّا، وأصدقهم لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأوسطهم نسباً. من رآه هابه، ومن خالطه أحبه. ما سُئِلَ شيئاً إلَّا أعطاه. وإن رجلًا أتاه سائلًا فأعطاه غنماً سدّت بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً صلى الله عليه واله يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

وكان يُنكر كلَّ منكر، ويأمر بالمعروف.

وكان- أخيراً- قدوةً لكل خير، وأسوةً في كل فضل، ورائداً إلى كل ما ينفع الإنسان في العالمين.

فعليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام 8.