مجموع الأصوات: 93
نشر قبل 15 سنة
القراءات: 14761

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ليلة القدر محطة المسؤولية

قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم حول ليلة القدر وعظمتها وشرفها :
﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 1 .
وقال عز وجل أيضاً : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ 2 .
وفيما يتعلق بليلة القدر سنتحدث عن ثلاثة أمور ، هي :
1 ـ معنى هذه الليلة ، وأهمّيتها ، وما يمكننا أن ننتفع به فيها .
2 ـ ارتباط ليلة القدر بالمسؤولية ودعم الإرادة البشرية .
3 ـ علاقتنا بالإمام الحجة عجل الله فرجه ، وعلاقته هو بليلة القدر ، وبالتالي العلاقة الروحيّة والمادّية التي تربطنا أو التي يجب أن تربطنا بالإمام الحجة .
إنّ ليلة القدر تحدّثنا عن (القدر) الذي يعني التقدير ؛ بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى قدّر الأشياء ، وجعل فيها سنناً وقوانين ، وأجرى هذه السنن والقوانين على الإنسان .

ما هي ليلة القدر ؟

ولكن ترى ما هي ليلة القدر ؟
نحن نعلم أنّ هذه الليلة مرتبطة بنزول القرآن الكريم ، ولأنّنا نؤمن بالقرآن ، ونعرف أنّه ميلاد حضارتنا وأمّتنا وشخصيّتنا ، وأنّه منقذنا وقوام حياتنا وسلوكنا وبصائرنا في هذه الحياة ، فإنّ من الواجب أن نخصّص ليالٍ في العام نحتفل فيها بذكرى نزول القرآن الكريم .
ولأنّ الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى وبعث به محمداً صلى الله عليه وآله لم يكن دين أشخاص ولا مادّيات ، بل كان دين قيم وأخلاق ، فإنه أولى لليلة القدر أهمّية تفوق أهمية سائر المناسبات الإسلامية الأخرى كيوم الجمعة ، والعيدين الشريفين . .
ومن جهة ثانية ؛ لأن ليلة القدر هي عيد القرآن ، وعيد القيـم والمقدّسات . . والإسلام هو دين المعنويات والروحيات ، دين يربطنا بالسماء ، وإذا ما ربطنا بالأرض فانّه يربطنا بحيث لا نخلد إليها ، ولا نتعلّق بها . فهو يعلّمنا أن نقول : " اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور " 3 .
فيجب أن تكون هناك مسافة بيننا وبين الأرض والتراب ، وبالتالي بيننا وبين كلّ ما يبعدنا عن الإسلام وقيمه . ولذلك يقول القرآن الكريم عن ليلة القدر : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ... 4 ولأنّا أنزلنا القرآن الكريم في هذه الليلة ، فلذلك أصبحت هذه الليلة ليلة شريفة هي خير من ألف شهر ؛ وبعبارة أخرى خير من ثمانين سنة بما فيها من مناسبات دينية عظيمة .

بالحق يعرف الرجال

و نحن نرى أن المسلمين يحتفلون بالأعياد الأخرى ، ولكنّهم (للأسف) لا يحتفلون بليلة القدر التي يجب أن يكون الاهتمام بها أكثر . والسبب في هذه الظاهرة المؤسفة أنّنا (نحن المسلمين) نعرف الرسالة من خلال الأشخاص ، فنعرف القرآن من خلال نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله ومن خلال الإمام علي عليه السلام ، ونعرف الجهاد عبر الإمام الحسين عليه السلام ، وبالتالي فإنّهم يعرفون الحق بالرجال ، ولا يعرفون الرجال بالحق ومن خلال المبادئ والقيم والفطرة الإنسانية .
ومن هنا ؛ ندرك سبب تحوّل الأمّة ، وسبب تغييرها لوجهتها الحقيقية ، وعدم اهتمامها ببعض الأمور التي يجب أن تهتم بها ، ومن جملة هذه الأمور « ليلة القدر » .
إن بعض المؤمنين قد يجدون وسيلة للدعاء ، ولكنهم لا يجدون وسيلة للقرآن الكريم ، وللتعرف عليه من جديد ، لأنَّ فلسفة الاحتفال بمثل هذه المناسبات أن يعيد الإنسان النظر في حياته وواقعه ، ونحن عندما نحتفل بعيد ميلاد القرآن مرة واحدة كلّ عام فإنّنا يجب أن نعيد النظر في علاقتنا بالقرآن ، ومستوى فهمنا له ، ولكنّنا لا نفعل عادة ذلك للأسف الشديد .

ليلة القدر عيد

وهنا يبقى سؤال آخر ، وهو أننا قد تعوّدنا على أن تكون الأعياد أياماً ، فكيف يمكن أن تكون في الليالي كما هو الحال في ليلة القدر ؟
وللجواب على هذا التساؤل نقول إن الإنسان يرتبط في نهاره بالحياة المادية ، إذ أنه قد جعل معاشاً للإنسان ، أما الليل فهو الوقت المناسب لعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى . ولأنّ الليل كذلك ، ولأنّ العيد الحقيقي للإسلام هو عيد القيم ، والعلاقات الروحيّة التي تربط بين الإنسان وخالقه ، فقد كان وقت عيد مولد القرآن ليلاً لا نهاراً ، ولذلك يقول القرآن الكريم : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ... 5 .
وإذا أردنا أن نتعرّف على هذه الحقيقة فلابدّ ان نرجع الى سورة (المزمّل) حيث يقول عز وجلّ : ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 6 ، والسبب في ذلك يوضحه القرآن الكريم عندما يقـول : ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا 7 فلأنّ الرسول صلى الله عليه وآله كان يريد أن يتلقّى الوحي فقد كان عليه أن يقوم الليل ، لأنّ هذا الوقت هو ميلاد الإنسان المتمسّك بالقيم الروحيّة والمعنوية ، وهو أيضاً ميلاد القرآن ، وطريق توجيه الإنسان من الناحية الروحيّة .

علاقة الأمّة بليلة القدر

وللإجابة على السؤال الثاني وهو : ما هي علاقة الأمة الإسلامية اليوم بليلة القدر ؟ نقول : إنّ القرآن الكريم يتحدث في سورة (الدخان) عن ليلة القدر مستعملاً كلمة (الحكيم) : ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 8 وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى يعطي للناس هذه الليلة بعد أن تفرّق حقوقهم عن بعضهم البعض بحكمة ، وبمقدار جهادهم وعملهم وتحمّلهم للمسؤولية والصعوبة التي يلاقونها في الدنيا كما قال الإمام علي عليه السلام : ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول : " حُفّت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات " 9 .
وفي هذا المجال يقول الله جل وعلا : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 10 ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... 11 .
فحينما نفهم حقيقة ليلة القدر ، وندرك أنّ هذه الليلة هي الليلة التي بقدر الله تعالى فيها لعباده ما يشاء بالحكمة ، فإنّ هذه الحكمة تقتضي منّا أن نخطّط لحياتنا في هذه الليلة وفق المنهاج الإلهيّ وهداه ، ووفق ما تأمرنا به عقولنا وفطرتنا وتجاربنا المكتسبة ، ثم علينا بعد ذلك أن نسأل الله في هذه الليلة التوفيق والبركة ، والإعانة على سدّ ثغراتنا ، وهذه هي حقيقة علاقة ليلة القدر بنا كأفراد .

محطة التزوّد بالوقود الروحيّ

فليلة القدر هي محطّة للتـزوّد بالوقود الروحي . والإنسان يحتاج إلى محطّات في حياته ، ويحتاج الى منابع ، وهذه المنابع موجودة ومتوفّرة في ليلة القدر كما أن الإنسان تلزمه إعادة النظر في حياته الروحية في ليلة القدر ، ولعظمة هذه الليلة وأهميّتها لما أكّد عليها الخالق عز وجل كلّ هذا التأكيد الذي يفوق أيّ تأكيد آخر على أية مناسبة أخرى ، لأنها (أي هذه الليلة) مفعمة بالمعاني والدلالات الروحيّة ، ولذلك جاء التأكيد على أداء الممارسات العباديّة فيها ، ومنها الصلاة المندوبة التي على الإنسان المسلم أن يؤدّيها فرادى لكي لا يختلط عمله بالرياء . فصلاة الليل هي الصلاة التي سنّت وشرعت لتكريس العلاقة الروحية ، هذا التكريس الذي لا يمكن أن يحدث إلاّ إذا أدّى الإنسان العبادات بعيداً عن الناس .
ترى من منّا فكّر أن يخلو إلى نفسه في زاوية من الزوايا ليلة أو ليلتين ليعيد النظر في علاقته مع الله عز وجل ، وفي سلوكه وتصرّفاته ؟ ومن منّا فكّر في أنه هل هو من أهل الجنّة أم من أهل النار ، وهل أنّ أعماله قرآنية أم لا ؟
وإذا ما مات الإنسان فإنّ فرصته لا يمكن أن تعود ، فلماذا يستمرّ في خداع ذاته ، ولماذا لا يتنبّه من غفلته ، وقد ورد : " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " 12 .
وأنا أتصوّر إنّ الإنسان يشبه إلى حد كبير الرجل الذي ابتلع مجموعة ضخمة من الحبوب المنوّمة ، وهو يعرف أن علاجه أن يستيقظ من النوم ليداوي ويعالج نفسه بقوّة إرادته ، ثم هو يوقظ نفسه ولكن لعدة دقائق تضعف إرادته بعدها ليتغلّب عليه النوم مرّة أخرى ، ثم ينتبه مرّة أخرى من خلال عامل إيقاظ ذاتي أو خارجي ثم إذا به ينام مرّة أخرى وهكذا . وحتى ينتبه الانتباه المطلوب فانه بحاجة إلى المزيد من الوقت .
وقد أثبت علم النفس الحديث أن الإنسان إذا تعوّد (مثلاً) أن يطالع في غرفة معينة ووفق شروط خاصّة خلال ساعة محدّدة ، فعندما يحين الوقت يجد نفسه مشدوداً إلى المطالعة دون إرادته ، وهذه عادة النفس البشرية .

النقد الذاتي

ولو أنّنا خصّصنا في كلّ عام ليلة القدر لإعادة النظر في حياتنا ، وفي علاقتنا بالله جل وعلا ، وفي مجمل سلوكنا ومناهجنا وطرق تفكيرنا ، لتعوّدت أنفسنا على أن تفعل ذلك في كلّ عام بمجرّد أن ندخل في ليلة القدر . أمّا إذا تركنا هذه الأمور للصدف ، واشتركنا (مثلاً) في مجلس روحيّ وكان الخطيب بارعاً واستطاع أن يوقظنا من نومنا ، وأن يجعلنا نفكّر في أن نغيّر حياتنا لفترة موقّتة ، فنقول سنحاول أن نغيّر أنفسنا إن شاء الله . فانّ مثل هذا التفكير غير منطقيّ ، وغير مقبول شرعاً . فالإنسان يجب أن يكون هو واعظ نفسه بالدرجة الأولى ، وأن لا ينتظر من الآخرين أن يفعلوا له ذلك ، لأنّ ذلك مشروط بأن يبادر الإنسان نفسه إلى تغيير ذاته وخصوصاً في ليالي القدر المباركة التي هي بمثابة الوقود الذي نتـزوّد به لتحصين أنفسنا ضد الأهواء .

معنى الروح في القرآن

وأمّا فيما يتعلق بالموضوع الثالث الذي أريد معالجته في هذا الفصل ؛ فهو أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن ليلة القدر وعن هبوط الملائكة والروح فيها ، وقد جاء ذكر (الروح) في القرآن في عدّة مناسبات من مثل مناسبة (ليلة القدر) ، وسؤال اليهود ومشركي مكّة ، وعند الحديث عن ا لنبي آدم والنبي عيسى بن مريم عليهم السلام ، ويوم القيامة .
وفي أحد هذه المواضع يقول القرآن الكريم عن (الروح) : ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً 13 .
وهنا أودّ التذكير بأنه ليس من الصحيح مطلقاً تفسير (الروح) بما هو شائع عندنا من أنّها تعني النفس ؛ أي ذلك الكائن اللطيف الموجود في أجسامنا . فالروح في هذه الآية وغيرها من الآيات تعني « روح القدس » التي كانت تنـزل على الأنبياء عليهم السلام . وبغض النظر عن البحوث الفلسفيّة الطويلة التي وردت بشأن تفسير هذه الكلمة ، نقول إنّ (روح القدس) هي التي كان من المقرّر أن يسأل عنها اليهود ليعرفوا هل أنّ نبوّة الرسول حقّة أم لا ؟
والآية الأخرى التي ذكرت فيها كلمة (الروح) تلك التي نزلت في خلق آدم عليه السلام والتي يقول فيها تعالى : ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ 14 .
فهذه الآية تدلّ على أنّ الروح التي نفخت في آدم لم تكن تلك الروح التي نريد منها النفس ، وإنّما هي نوع من النبوّة التي جعلت الملائكة يسجدون لآدم . وإلاّ فإنّ الإنسان ليس بأفضل من الملائكة إلاّ بالإيمان ؛ والإيمان لا يتأتى إلاّ بالنبوّة . ولذلك فإنّ الروح التي هبطت على آدم وربط الله سبحانه وتعالى بينها وبين سجود الملائكة لم تكن إلاّ روح القدس التي هي النبوّة .
وهكذا عندما يتحدّث القرآن الكريم عن النبي عيسى قائلاً : ﴿ ... فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ... 15 إذ المعلوم أنّ عيسى لم يكن يمتلك الروح الموجودة في جسده ، كما أنّ هذه الروح لم تكن روح الله تبارك وتعالى . وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ جميع أرواحنا لابدّ أن تتشابه مع تلك الروح .
وفي آية أخرى يقول القرآن الكريم : ﴿ ... وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... 16 فمن الملاحظ أن الله عز وجل يقول في الآية السابقة ﴿ ... رُّوحِنَا ... 15 ، وفي هذه الآية يقول : ﴿ ... بِرُوحِ الْقُدُسِ ... 16 ومن هنا نستنتج انّ المراد من كلمة ﴿ ... رُّوحِنَا ... 15 هو ﴿ ... بِرُوحِ الْقُدُسِ ... 16 أيضاً . وهذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ معنى الروح هو (روح القدس) التي هي الواسطة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى ؛ بين النبيّ وبين الخالق ، والمتمثّلة في جبرائيل عليه السلام .
والمهمّ في سورة القدر المباركة أنّ الله عز وجل يشير فيها إلى الملائكة التي هي (كما جاء في بعض الروايات) مخلوقات مرتبطة بالإشراف على الظواهر الطبيعية كالمطر والرياح والسحاب . . . ونحن نعلم أن (روح القدس) كان يهبط على الأنبياء عليهم السلام لغرض النبوّة كما يقول تعالى : ﴿ ... وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... 16 و ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ 14 .

الروح يهبط على الإمام الحجة

وقد جاء في تفاسيرنا أنّ الروح كان يهبط أيضاً في ليلة القدر على الأئمة عليهم السلام ، كلٌّ في العصر الذي كان يعيش فيه . وأنّه يهبط الآن على إمام العصر المتمثّل في الحجة بن الحسن عجل الله فرجه . فإلى ماذا يرمز هذا المعنى ، وبتعبير آخر ؛ ماذا يعني أنّ الروح تتنزّل في هذه الليلة على الإمام الحجة وما علاقة ذلك بنا ؟
للإجابة على هذا السؤال المهمّ نقول : إنّ التشيّع هو المذهب الوحيد الذي يؤمن أنّ العلاقة بين الإنسان الذي اختاره الله تعالى مبلّغاً لرسالته ، وبين الخالق ما تزال قائمة ومستمرّة ، وهي من نوع تلك العلاقة التي كانت موجودة في أيام عيسى وموسى ونبيّنا محمد صلى الله عليه وآله ، لكي لا يقول الإنسان في القرن العشرين إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث الأنبياء إلى الأمم السابقة في حين حرمنا منهم في هذا العصر .
إنّ النبوة موجودة ومستمرّة ولا يمكن لها الاّ إن تستمرّ متمثّلة في الإمامة . وإذا كانت هذه العلاقة موجودة فلماذا (إذن) لا نستطيع رؤية الإمام الحجة عجّل الله فرجه ومقابلته ؟
أنا (شخصياً) أرى أنّه عليه السلام يتحمّل الآن واجبات ومسؤوليات عليه أن يؤدّيها خفية كما كان حال جميع الأنبياء والأوصياء في بداية دعواتهم . فالعمل السّري ضروريّ ، ومن الواجب الاستمرار فيه حتى تتكشّف قدرات الناس وإمكاناتهم ، وبعد ذلك يجوز لنا أن نعمل بشكل علني ، وهذا ما تؤكّد عليه الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام ، حيث اتّفقت هذه الروايات على انه لابد للإمام الثاني عشر من غيبة .

لماذا الغيبة والانتظار

ومن التساؤلات المهمّة المطروحة في هذا المجال هو : لماذا هذه الغيبة ، ولماذا الانتظار ، ولماذا أمرنا في الأدعية بأن نطلب من الله تعالى التعجيل في ظهور الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ولماذا نطلب منه بين الحين والآخر أن يتدخّل ، وأن يقوم بعمل مباشر في سبيل إنقاذنا من المآسي المحيطة بنا ؟
إنّ مثل هذه التساؤلات ، ومثل هذه الأدعية التي أمرنا أن نقرأها بشأن الإمام المهديّ عليه السلام تدلّ دلالة واضحة على أنّه عليه السلام بإمكانه أن يتدخّل بشكل ماديّ ملموس في سبيل الحيلولة دون وقوع بعض الأحداث التي من شأنها أن تجر الويل والدمار على البشرية . ومن يدري لعلّه عليه السلام قد تدخّل لحدّ الآن في الكثير من الأحداث فحال دون وقوعها ، وأنقذ البشرية لمرّات عديدة من أخطار محدقة كادت تؤدي بها . ولذلك فقد جاء التأكيد في الروايات على أنّه : " لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها " 17 .

حكمة وجود الإمام المهدي عليه السلام

ونحن نعلم أنّ الطغيان الماديّ المتـزايد في الكون هو نتيجة لبعد الإنسان عن مبدأ التشريع وعن نهج الأنبياء والأئمة عليهم السلام . فالبشرية لم يكن بمستطاعها أن تقفز قفزات روحيّة وأخلاقية إلاّ من خلال الأنبياء عليهم السلام . وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم : ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ ... 18 ، وقد جاء في التفسير : أنّ المراد من أنّ الناس كانوا أمّة واحدة أنّهم كانوا على باطل بأجمعهم ، فلم يكن بإمكانهم أن يهتدوا إلاّ من خلال الأنبياء الذين كانوا يضمنون تحقّق حالة التوازن والتعادل بين الخير والشر ، بحيث لا يطغى الفساد على الإصلاح والشرّ على الخير . وهذه هي حكمة وجود الإمام الحجة عجل الله فرجه في الأرض رغم أنّه مغيّب عن شيعته .
فليلة القدر بالإضافة إلى كونها الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم – هي ليلة تجديد العهد والميثاق مع الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه . وقد جاء في الروايات التأكيد على أنّه عليه السلام يطّلع في هذه الليلة على أعمال شيعته ، فيفرح إن كانت متّجهة الى الصلاح ، ويحزن إن كان الجانب الدنيوي هو الطاغي عليها .
فلنحاول أن نجعل من ليلة القدر منطلقاً لتغيير أنفسنا ، وإعدادها لليوم الموعود وذلك من خلال الالتزام بالبرامج الأخلاقية والتربوية التي ترفعنا في مدارج الكمال ، وتصفّي أنفسنا من الصفات الأخلاقية السلبيّة ، وتجعلنا بالتالي مهيّئين وجديرين لأن نكون جنوداً أوفياء ، وأنصاراً مخلصين لإمام العصر في يوم ظهوره الأعظم 19 .