مجموع الأصوات: 0
نشر قبل 3 أيام
القراءات: 217

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

قوى التحديث في العالم الإسلامي

في خارج العالم العربي وعلى المستوى الإسلامي، هناك قوى تحديثية فاعلة وناهضة، لعلها الأكثر ظهوراً وتجلياً في محيط العالم الإسلامي. فقد استطاعت هذه القوى أن تبلور لنفسها منظومات ومسلكيات اقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية، جعلت من الممكن التناغم و الانسجام بين الدين والحداثة، وبين الدين والتنمية، وبين الدين والديموقراطية. وقدمت في هذه المجالات نماذج متنوعة ومتطورة، مع مابينها من مسافات زمنية متباعدة، فبعضها قطع شوطاً طويلاً نسبياً ترسخت معه ملامح ومكونات ومسالك ذلك النموذج مثل ماليزياً، وبعضها قطع شوطاً قصيراً أو متوسطاً نسبياً مثل إيران، وبعضها مازال حديثاً لكنه واعداً مثل تركيا.

هذه النماذج الثلاثة بتنوع بيئاتها، وتعدد منظوماتها يمكن النظر لها على أنها تمثل أبرز القوى التي تتبنى وتدير عمليات الإصلاح والتحديث من داخل مؤسسة الدولة في نطاق العالم الإسلامي، وعلى أساس التكيف مع الهوية الدينية، نظم التفكير الإسلامي. وهي النماذج التي اكتسبت شهرة ومعرفة ولفتت إليها ومازالت انتباه العالم الذي ظل يراقبها باهتمام لمعرفة واختبار مدى قدرتها وكفاءتها على التوافق والانسجام مع الحداثة والديموقراطية في إطار مرجعياتها ومنظوماتها الدينية، وتأثيرات ذلك على أنظمتها وبرامجها ومسلكياتها في المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والاتصالية، وفي أنماط علاقاتها الدولية مع الدول والقوانين والمؤسسات. والذي عزز هذه المكانة والشهرة لهذه النماذج كونها ارتبطت بشخصيات وزعامات عرفت بالمنحى الإصلاحي والتحديثي على مستوى الخطاب الفكري والمشروع السياسي، وهو المنحى الذي أوصلهم إلى مواقع الزعامة وتأييد الأغلبية العظمى من الناس لهم.

فالنموذج الإصلاحي في ماليزيا ارتبط بشخصية الدكتور محاضير محمد، وفي إيران ارتبط بالسيد محمد خاتمي، وفي تركيا ارتبط بالسيد رجب طيب أردوغان. و هؤلاء الثلاثة تجمعهم المنطلقات الدينية والانفتاح على ثقافات العصر ومعارفه. وما يضاعف من أهمية هذه النماذج هو أن الدول التي يقودها هؤلاء الزعماء تعتبر من الدول التي لها مكانتها التاريخية والسياسية والحضارية وحتى الجغرافية على مستوى العالم الإسلامي، وبالذات تركيا وإيران فهما من الدول الإسلامية الكبيرة من حيث عدد السكان والمساحة الجغرافية. و أما ماليزيا فهي تعتبر في هذا الوقت من أكثر الدول الإسلامية تطوراً وتقدماً في ميادين الصناعة والتقنية والمعلوماتية. وبين هذه النماذج الثلاثة تنوعات في الملامح والمكونات والاتجاهات ناشئة بسبب تنوع البيئات، وتعدد المنهجيات، وتفاوت التراكمات. وهي العناصر التي تجعل من كل نموذج يكون له طبيعة فريدة ومتميزة، مع ما بينهم من مشتركات كلية وعامة في المقاصد والغايات. فالنموذج التحديثي في ماليزيا قطع شوطاً كبيراً في مستويات الإصلاح والتحديث، ووصل إلى درجات متقدمة في مجالات عديدة، حيث تعتبر ماليزيا ثالثة أكبر منتج للدوائر الإلكترونية المتكاملة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وأكبر مصدر لهذه الدوائر الإلكترونية المتكاملة على مستوى العالم، وهي أيضاً أول قطر في جنوب شرقي آسيا ينتج سيارة وطنية خالصة، و هي سيارة البروتون ساغا، كما أنها ثاني أكبر دولة تجارية في رابطة دول جنوب شرقي آسيا بعد سنغافورة. ويعتبر الدكتور محاضير محمد مهندس ومحرك هذا النموذج التحديثي في ماليزيا، وهو الإنجاز الذي أكسبه مكانة مرموقة في المحافل الدولية حيث أصبح له صوتاً يصغي إليه العالم ويستمع له الزعماء باحترام واهتمام، فهو صاحب خطاب فكري يدمج فيه مفاهيم الاقتصاد والتنمية والإدارة و التصنيع، وقضايا التطور والتقدم والتحديث بالرؤية الإسلامية و بروح وجوهر الإسلام. ومن ملامح وأبعاد هذا الخطاب يقول محاضير محمد: نحن في ماليزيا نرى أنفسنا مثل أسلافنا المسلمين في العصر الذهبي، لأننا نلتزم رؤية ومدخلا أصيلاً ينسجم مع روح وجوهر الإسلام، وكان لابد لنا أن نبدأ أولاً بتحقيق النمو. وفي نص آخر يقول: أنا مقتنع تماماً بأن الجهاد الحقيقي ماهو إلا جهاد المسلم لتحقيق الوحدة الإسلامية، واكتساب فنون الحكم وإدارة الدولة، وتحصيل المعرفة والتسلح بالمهارات العالية. وعن نقده لواقع المسلمين اليوم يقول: نحن نشهد في وقتنا الحالي بزوغ فجر عصر المعلومات في كل مكان، لكن يبدو أن المسلمين يضيعون للمرة الثانية فرصة الإفادة من الثورة المعلوماتية بمثل ما سبق لهم أن فرطوا في المساهمة والإفادة من الثورة الصناعية، وللأسباب نفسها إذ أنهم مازالوا منشغلين بخصوماتهم الجانبية التافهة، من دون إعارة القضايا والتحديات الجوهرية الاهتمام الذي تستحق.

وأما النموذج التحديثي في إيران فقد اكتسب زخماً كبيراً مع وصول السيد محمد خاتمي إلى موقع الرئاسة سنة1997م، الحدث الذي اعتبره بعض المراقبين بأنه يشكل مرحلة جديدة وصفت بمرحلة الخاتمية نسبة للسيد خاتمي. وشعار هذه المرحلة كان المصالحة بين الدين والحرية، وعن هذا الشعار يقول السيد خاتمي: البعض يريد إيجاد تعارض بين الدين والحريات، من خلال الإيحاء بأن الحريات تعني الفلتان والتسيب، ولما كان شعبنا متديناً بطبيعته، فالنتيجة أن الحريات ستقمع. إن هؤلاء يعادون ذات الحرية و لا يريدونها، وأنا أقولها بصراحة بأن وضع الدين بوجه الحريات خسارة للدين والحريات معاً. وخدمة الدين هي أن نقول ونعتقد بأن الحريات والدين متلازمان، وأما إذا وضع التدين في تعارض مع الحريات فان التدين سيتحول إلى عقبة تمنع تقدم البشرية. وقد لفت هذا التحول أنظار العالم بصورة كبيرة للغاية، حيث دشن عهداً جديداً في علاقات إيران الدولية، التي أعادت بموجبه رؤيتها ومكانتها بين دول العالم، وترسخ هذا المسار مع أطروحة حوار الحضارات، الأطروحة التي أراد منها السيد خاتمي تصحيح علاقات إيران الخارجية من جهة، وتصحيح العلاقات الدولية من جهة أخرى، و بالذات بين دول الشمال الغني و دول الجنوب الفقير. لذلك فقد أصبحت هناك متابعة واسعة للخطاب الفكري للسيد خاتمي من قبل شرائح كبيرة من النخب المثقفة ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنما في مراكز مختلفة من دول العالم. وفي هذا الخطاب يدمج السيد خاتمي مفاهيم الحريات وحكم القانون والمجتمع المدني، وقضايا الشباب والمرأة بالرؤية الإسلامية. وأما النمؤذج الثالث فمع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى رئاسة الحكومة والبرلمان في انتخابات نوفمبر 2002م، شهدت تركيا عهداً جديداً بكافة المقاييس، الحدث الذي أدهش تركيا نفسها وحتى العالم، وهناك من وصف هذا الحدث بأنه يمثل نقطة تحول مهمة لعلها الأهم في تاريخ الجمهورية منذ قيامها عام 1923م، وهناك من اعتبر بأن حركة أردوغان ستؤدي حكماً إلى تغيير وجه تركيا. وحين يشرح أردوغان الغاية من هذا النموذج يقول: هدفنا يتلخص في إقامة بلد لخدمة نموذج يظهر كيف بامكان الإسلام التعايش مع الديموقراطية، أنا مصمم والكلام لأردوغان على تحقيق ذلك، وعلى أن يكون هذا النموذج ناضجاً، وسنواصل جهادنا لتجسيد هذا الهدف.
ولا شك أن هذه النماذج الثلاثة بإمكانها أن تساهم في تجديد العالم الإسلامي وتحريكه باتجاه التحديث والنهوض، لو استطاعت هذه النماذج التكامل والتضامن فيما بينها، وتحركت في هذا الاتجاه وبعثت هذه الروح في العالم الإسلامي الذي هو بأمس الحاجة إلى التجديد والنهوض. كما إن العالم الإسلامي بحاجة إلى إرادة التقدم من جهة، وإرادة التكامل من جهة أخرى.
إلى جانب الانفتاح والاقتراب والتفاعل مع تلك النماذج التي عبرت عن كبريات المسائل والقضايا التي يحتاجها العالم الإسلامي وهي التنمية والحرية والديموقراطية وعلى قاعدة مرجعية الدين. لذلك فهناك ضرورات ملحة في أن تلعب هذه الدول الثلاث أدواراً قيادية على مستوى العالم الإسلامي مستفيدةً من وجودها في مجموعة الدول ألثمان من جهةٍ، ومن وجودها في منظمة المؤتمر الإسلامي وهو أكبر إطار على مستوى العالم الإسلامي من جهة أخرى.
الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 13380.