مجموع الأصوات: 55
نشر قبل سنتان
القراءات: 1555

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تفكيك النظر للعولمة

سوف يسجل المؤرخون الاجتماعيون والاقتصاديون وفي الحقول الأخرى، لاحقاً، بأن اكثر قضية استحوذت على أوسع اهتمام، من حيث الزمان والمكان، ومن حيث تعدد الميادين والحقول، وبالشكل الذي يفوق الاهتمام بأي قضية أخرى تقريباً، هو مع قضية العولمة. القضية التي يشتغل عليها في زمن واحد العالم برمته بكل ثقافاته وأديانه وقومياته وجغرافياته، يختلفون عليها، وينقسمون ويتصادمون حولها. وقد تحولت إلى قضية شعبية، الناس بمختلف شرائحهم يتسألون حولها، ويحاولون التعرف عليها بأي صورة مبسطة كانت، وبالنمط الذي لم يحدث مع أي قضية أخرى من القضايا التي تتصف بالتعقيد والتشابك، أو التي ينشغل بها في العادة شرائح معينة مثل الخبراء أو أهل العلم والمعرفة والاختصاص. وفي نظر رئيس كلية لندن للاقتصاد والسياسة والمنظر لأطروحة الطريق الثالث في أوروبا انتوني غيدنز بأن النقاش حول العولمة في الوقت الراهن هو أهم نقاش دائر في العالم، لأنه كما يضيف يتناول كيفية تشكيل التغيير، أو التأثير في التغيير الذي يعمل على صياغة حياتنا فوق هذا الكوكب، وأن هذا النقاش كسر حدود الاحتكار الأكاديمي في سياتل وواشنطن وبراغ.
والحقيقة ان هذا النقاش الواسع حول العولمة، هو من صور الانخراط في العولمة التي اقتحمت علينا حياتنا بدون إستئذان وفرضت علينا وجوداً يكاد أن يكون قسرياً بحيث لا يمكن تجاهله أو التنكر له أو القفز عليه، الأمر الذي يفسر انخراط حتى المعارضين والمناهضين للعولمة في النقاش والسجال الدائر حولها.
ومن المؤكد ان هذا النقاش سوف يحافظ على وتيرته النشطة والمتصاعدة، وفي مختلف مراكز العالم، لما تحمله العولمة من موجات شديدة التغيير والتي يصفها البعض بالتيار الكاسح كتعبير عن قوة تأثيراتها.
ومع تزايد هذا النقاش حول العولمة، والكتابات التي لا تكاد تتوقف أو تنقطع حولها، إلى درجة ممكن الجزم بأن ما من كاتب أو صاحب قلم إلا وكتب شيئاً عن هذه الظاهرة أو راودته الكتابة حولها على اقل تقدير. ولا أدري إذا كنا قد وصلنا إلى درجة الملل من الكتابة حول العولمة، أو ما زالت هذه الكتابات تلفت النظر وتبعث على الاهتمام بمتابعتها، أو أننا وصلنا لدرجة الإسراف والاستغراق الذي لا جدوى منه! لكن ما يمكن القطع به أننا لم نكوّن لنا تلك المعرفة الناضجة والمتماسكة حول العولمة. المعرفة التي يفترض أن تساعدنا في القدرة على التحكم بادارة العولمة أو بطرائق التعامل معها، أو حتى بالسيطرة على أوضاعنا وضبط شؤوننا، وتوجيه حياتنا.
والفكرة التي توصلت إليها وبإمكانها حسب اجتهادي أن تساهم في تكوين قدر من الفهم الموضوعي أو المعرفي لظاهرة العولمة، وأن تضع حداً نسبياً للسجالات والاحتجاجات المتصادمة، كما يفترض، هذا الفهم ينطلق من قاعدة تفكيك النظر للعولمة، بين جانب يتصل بالعلم والواقع الموضوعي، وجانب آخر يتصل بالأيديولوجيا والتفسير الأيديولوجي.
الجانب الأول ويرتبط بالتطور العلمي والتقني والتكنولوجي، وميادينه الاعلام والمعلوماتية والاتصالات والمواصلات، وتقنياته الكومبيوتر والتلفاز والهاتف والأقمار الاصطناعية. وهي التقنيات التي ارتبطت بالحاجات الحيوية للناس، ودخلت في كل مرافق حياتهم، وجعلت من العالم الكبير والواسع متقارباً بصورة كما لو أنه قرية صغيرة أو هكذا يوصف. هذا الجانب الذي يتصل بالعلم وبالتطور العلمي لا يمكن رفضه أو مناهضته أو استنكاره.
أما الجانب الآخر والذي يتصل بالأيديولوجيا وينقسم إلى أمرين: الأول وهو تحويل العولمة إلى أيديولوجيا. والثاني: هو التفسير الأيديولوجي للعولمة. تحويل العولمة إلى أيديولوجيا هو منشأ الخدر والخوف والخطر من العولمة وذلك من خلال توظيفها لخدمة بعض الأهداف والمصالح وتحقيق بعض الامتيازات، والاستفادة منها في فرض بعض الاتجاهات وقولبة بعض المفاهيم والأفكار، وتكوين خطاب يحاول أن يحتكر تفسير وفهم العولمة بحيث يكون متلازماً معها، والترويج لهذا الخطاب وتعميمه.
والأمر الثاني وهو الفهم الأيديولوجي للعولمة، والنظر لها من زاوية الأيديولوجيا أي من خلال قوالب وتركيبات فكرية وسياسية متحيزة، وبإضفاء فهم محدد والتمسك به لدرجة التشدد والانغلاق عليه لدرجة الجمود. وهذا ما وقعت في إشكاليته أكثر القراءات العربية التي تسرعت في إعطاء أحكام اتصفت بالنهائية والجزم والقطع في الوقت الذي كانت فيه العولمة تمر بأطوار مختلفة ومغيرة. وتلك الأوصاف هي من صور وملامح الفهم الأيديولوجي. فالأيديولوجيا التي تكون عاجزة أو مشلولة، فإنها لا تقدم فهماً أو تفسيراً يكون بعيداً عن تلك الأوصاف. لست في موقع الدفاع عن العولمة، ولا أريد أن أضع نفسي في مثل هذا الموقع، وإنما ألح دائماً في أن تكون المعرفة هي سيدة الموقف، المعرفة المبنية على الاجتهاد الذي يقتضي أعلى درجات الفاعلية في تكوين الفهم المنهجي المحكم، فالمعرفة ينبغي أن تتقدم دائماً وقبل كل شيء، وتكون هي الحاكمة. مع ذلك سوف يظل الحديث حول العولمة ملحاً بين وقت وآخر، الأمر الذي يتطلب تجديد الفهم حولها بصورة مستدامة، وأن لا نعطي أنفسنا صفة النهائية في تكوين المعرفة بها. هذا التمسك بالفهم المعرفي للعولمة هو الشرط الرئيسي في بناء التوازن، وإيجاد القدرة على التحكم، والقدرة على التحصن والممانعة، والاستفادة من المكاسب والمنجزات! لذلك فإن المعرفة هي أولاً!1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الوطن، العدد 346.