مجموع الأصوات: 25
نشر قبل سنتان
القراءات: 2085

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الفقه ليس كلّ شيء لكن لا قيامةَ من دونه

شهدت العقود الأخيرة أكبر الجدل حول الفقه الإسلامي ومصيره وأهميّته ووضعه وأحواله. وانقسم الناس فيه بين محبٍّ غال ومبغضٍ قال. ولست هنا بصدد الحديث عن ذلك كلّه، لكن ما أودّ الإشارة إليه هو قضيّة صغيرة ومحدّدة، وهي مركّبة ـ كما يظهر من العنوان ـ من جزأين:

الجزء الأوّل: ليس الفقه كلَّ شيء 

يتصوّر كثيرون أنّ الفقه هو كلّ شيء، ومعنى أنّه كلّ شيء يتجلّى في أمور، أبرزها:

أ ـ الجانب المعرفي في الدراسات الدينيّة، حيث يتصوّر الكثير من العلماء والأفاضل وغيرهم أنّ الجهاز العصبي والهيكل العظمي والروح الحقيقيّة للمعرفة الدينيّة تكمن في العلوم المتصلة بالفقه، من نوع علم أصول الفقه وعلم الحديث والرجال وأمثال ذلك. وترى هذه الثقافة السائدة في العديد من الأوساط أنّ من يعرف علم الفقه والأصول وبعضاً قليلاً من العلوم ذات الصلة بها كالرجال والحديث فهو العالم الحقيقي وغيره أمره مشكوك، حتى أنّ بعض العلماء لا يجيز صرف الحقوق الشرعيّة على من يشتغل بدراسة غير الفقه والأصول وما له صلة قريبة بهما.

هذه الفكرة تنسحب على عقيدة مستحكمة ترى أنّ الخبير بعلم الفقه والأصول قادر على حلّ المشكلات المعرفيّة أكثر من غيره بكثير، وأنّ العدّة المعرفية التي تقدّمها هذه العلوم تتخطّى مجالَها.

ب ـ الجانب العملي، بمعنى أنّ الفقه هو الذي يستجيب لكلّ شيء، فبالفقه تكون إدارة المجتمع، وبه يمكن تحقيق القيامة الحقيقيّة له، ولو استجابت الناس للفقه لحلّت مشاكلها، وينجم عن ذلك أنّ وظيفة العلماء والدعاة والمبلّغين يجب أن تكون متركّزة على الفقه، فهو منهاج الحياة. وهذا ما يُنتج تقدّمَ الفقهاء على سائر المتخصّصين في العلوم الإسلاميّة كالمفسّرين والمحدّثين وعلماء التاريخ والسيرة وعلماء الفلسفة والكلام والمنطقيّات وغير ذلك، فهم القادة الدينيّون للمجتمع الإسلامي لا غير.

وقد سبق أن تحدّثتُ عن هذا الأمر بالتفصيل في مناسبات عدّة، لكن في مقام التعليق المختصر هنا ـ وفق ما توصّلتُ إليه ـ فإنّ ما يبدو لي هو أنّ الفقهَ ليس هو كلّ المعرفة الدينيّة، ولا الذي يتعلّمه بقادرٍ على حلّ مشكلات الفلسفة والكلام والتاريخ والتفسير وعشرات غير ذلك، بل على العكس أحياناً فقد رأينا بعض من استحوذ الفقهُ على كلّ عقله وتفكيره كيف صنع عندما أراد الدخول في مناقشات متصلة بموضوعات غير فقهيّة، وكيف قارب الأمور بذهنيّة فقهيّة بدت لكثيرين ناقصةً جداً، ولستُ بصدد إعطاء أمثلة هنا.

وليس الفقه هو الوحيد في إدارة حياة الناس، بل هو شعبة تحتاجها حياتهم في الإدارة، وإلا فإدارة الحياة لا تكون بالفقهاء فقط بما هم فقهاء، بل تحتاج لتعاون هائل بين مختلف الاختصاصات الدينيّة والإنسانيّة والتجريبيّة وغيرها، فتبسيط المشهد غير دقيق إطلاقاً.

إنّ تصوّر بعض المشتغلين بالفقه أنّه يمكن تفقيه أو فقهنة كلّ شيء، هو تصوّر يحتوي مغالطات ولو غير مقصودة، ويذكّرنا أحياناً بالتشبيه الذي يقول بأنّ الذي يحمل في يده مطرَقة يَتصوّرُ كلَّ شيء من حوله مجموعة مسامير تحتاج للطرق عليها بمطرقته!

الجزء الثاني: لا قيامة من دون الفقه 

أقصد من هذا العنوان أموراً عدّة أبرزها:

أ ـ إنّ مجتمعاتنا الدينيّة، وما يحيط بها، هي مجتمعاتٌ تربّت على الفقه وشبكة العلاقة مع التشريعات ومع الفقهاء، ولهذا فأيّ محاولة تغييريّة لا تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع المتجذّر فإنّ مصيرها الفشل أو إذا نجحت سوف تنجح على حساب الدّين نفسه. يجب اعتبار الملف الفقهي ـ بما فيه الفقهي التجزيئي أو فقه المسألة ـ من أكبر الملفات التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند التفكير في حلّ أيّ قضيّة تواجهنا على المستويات العامّة، وهذا ما يفسّر أنّ الذين اتخذوا إصلاحاً عامّاً منفصلاً عن الفقه إمّا فشلوا أو خرجت تجربتهم عن مجال الدين، الا من شذّ وندر.

ولا أقصد بما قلتُه وجوب أن يدير التحوّلات فقهاءٌ بالضرورة، بل وجوب أن يكون لنا موقفٌ واضح وقراءة صحيحة وشاملة للفقه ـ ولا أقصد قراءة نقيضة تماماً ـ بحيث تحلّ محلّ الفقه بوضعه الحالي.

توصِلُنا هذه المقاربة إلى قناعة عميقة بأنّ مجتمعاتنا الدينيّة ـ وكثير من الأعراف والتقاليد في المجتمعات غير المتديّنة أيضاً ـ لا يمكن تغييرها بمجرّد تغيير مفاهيم عامّة وكليّة؛ لأنّ المفاهيم العامّة سوف تتحطّم عند صخرة التفاصيل والعادات والأعراف والتقاليد ونمط العيش، ومن يمكنه أن يلعب دوراً في تغيير هذه كلّها بشكل أكبر هو الفقه؛ كونه المجال الذي يملك تماساً أكبر مع تفاصيل الحياة.

يؤكّد ذلك لنا أنّ التفاصيل ليست هامشيّة بل مهمّة للغاية، لأنّ إجراء تحوّلات فيها يساهم في تغييرات اجتماعيّة، وبهذا نكون أمام فرصة أكبر لتحوّل عامٍ منشود. وعلى حدّ تعبير بعض علماء الاجتماع المسلمين المعاصرين، فإنّ مشكلة المجتمعات الإسلاميّة ليست هي الاستبداد السياسي فحسب، حتى نعلّق عليه كلّ مشاكلنا، بل أيضاً طبيعة المجتمع وأعرافه وقناعاته التفصيليّة هي التي تكوّن الكثير من الأشياء، بما فيها الاستبداد السياسي نفسه، فما لم نشتغل عليها بإعادة إنتاجٍ ممنهج فسيكون من العسير تغيير الأوضاع القائمة.

طبعاً هذا لا يعني تحقّق المطلوب، بل التغييرات الجزئيّة في علم الفقه، لاسيما على مستوى العادات والتقاليد والأعراف وأنماط العيش ـ وهي أمور أعتقد بأنها مهمّة للغاية خلافاً لما يتصوّره كثيرون ـ يلزم أن تتحوّل لتغييرات سلوكيّة بين الناس أو بعضهم، وعلى سبيل المثال، بعض العادات المنسوبة للدين عندما تتغيّر في السلوك تبدأ مرحلة نهاية عمرها.

ب ـ إنّ تطوّرات علم الفقه وما يحيط به من مجموعة علوم ذات صلة، بلغت الذروة في القرنين الأخيرين، بل قد تلقّفت الدراسات الأصوليّة والفقهيّة العديد من الموضوعات في العلوم الأخرى القريبة منها وقامت ببحثها بشكل مركّز، وهذا يعني أنّ علم أصول الفقه أخذ دوراً منهجيّاً أكبر من حجمه الطبيعي الموكل إليه، فتصدّى لما لا يجب عليه التصدّي له. يجرّ ذلك إلى قناعة بأنّ العديد من الاجتهادات في المنظومة المعرفيّة باتت تحتاج ـ في هذه المرحلة ـ لخبراء في العلوم النقليّة الشرعيّة هذه أو تحتاج لخبرتهم.

ج ـ إن ترك الفقه والتخلّي عن إجراء قراءات فيه وحوله، سوف يضع الهوية الاجتماعية الدينية أمام مشاكل عميقة، فالفقه هو عنصرٌ فاعل جدّاً من العناصر التي تمسك بمقوّمات تشكيل الهوية في السلوك والعادات والأعراف والعلاقات، والتخلّي عنه إمّا سيترك هذه المساحات لمن هي في يدهم الآن أو سيجعل الآخر المفاصل للدين يتولّى أمرها ويعيد تشكيلها، وهذا يعني أنّنا بحاجة للفقه في عمليّات حفظ الهوية كذلك.

أكتفي بهذا القدر وللتفصيل مجال آخر 1

  • 1. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.