مجموع الأصوات: 29
نشر قبل سنتان
القراءات: 2179

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التراث وبناء المنظور المعرفي

من المفارقات اللافتة في العلاقة ما بين التراث والمعاصرة، تلك المفارقة التي تظهر على بنية وتكوينات الخطابات الفكرية العربية والإسلامية. بين خطابات متشبعة بالتراث دون المعاصرة، وخطابات متشبعة بالمعاصرة دون التراث. فالخطابات الإسلامية ـ في العموم الأغلب ـ عرف عنها تشبعها بالتراث، ولم يعرف عنها تشبعها بالمعاصرة، والخطابات غير الإسلامية عرف عنها أو يظهر عليها تشبعها بالمعاصرة، ولم يعرف عنها تشبعها بالتراث. وبدل أن تحرك هذه المفارقة جدلاً فكرياً خلاقاً يكتشف فيه كل خطاب ما ينقصه ويتممه عند الخطاب الآخر، ويبعث على الانفتاح والتواصل، حصل ما هو خلاف ذلك، فقد غاب الجدل وحل مكانه النزاع والخصام، وبدل أن يحصل انفتاحا وتواصلا، حصل انغلاقا وقطيعة، تنخفض درجتهما وترتفع بحسب اختلاف وتنوع البيئات، ومستويات الخبرة والمعرفة. ومع أن الخطابات الإسلامية عرف عنها أنها تولي اهتماما كبيرا بالتراث، بحثاً وتأليفاً وتصنيفاً وتحقيقاً، إلا أنها لم تول قدرا كبيرا من الاهتمام في بلورة منظور معرفي تتشكل على أساسه مناهج التعامل والنظر مع التراث. وهذا من أشد ما ينقص هذه الخطابات في تعاملها مع التراث، ويؤثر على رؤيتها، وفاعلية نشاطها في هذا الحقل. فلابد من بلورة منظور معرفي على ضوئه تتحدد المقاصد والغايات من النظر إلى التراث، وهكذا الحاجات المعرفية والمنهجية التي ترتبط به، في زمنه الماضي، وبعلاقته بحياتنا المعاصرة، وبنظرتنا إلى المستقبل. وهذا هو المدخل السليم في التعامل مع التراث. لأن حقيقة المشكلة ليست في التراث، وإنما في طريقة فهمنا للتراث، وفي طريقة تعاملنا معه. فالسؤال المعرفي يتأسس على خلفية أن المشكلة ليست في التراث، وإنما في طريقة فهمنا لهذا التراث، والسؤال المنهجي يتأسس على خلفية أن المشكلة ليست في التراث، وإنما في طرقة تعاملنا مع هذا التراث. ولبلورة مثل هذا المنظور المعرفي لابد من الاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي لا ينبغي أن ننكر لها خبراتها وتجاربها وتطبيقاتها، ومنجزاتها ومكتسباتها المعرفية، وأدواتها وطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية. بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع التراث منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية. وإذا كان هناك حذر عند البعض من التعامل مع هذه المنهجيات، باعتبارها تنتسب إلى العلوم الغربية وتصنف عليها، فإن هذا الحذر لا مبرر له إلا مع الإسراف في الاعتماد عليها وطغيانها. أو مع الاقتصار عليها والاكتفاء بها، والمبالغة في تضخيمها كما يحصل عند بعض المثقفين العرب، أو مع عدم القدرة على تكييفها وتطويعها، وكيفية الاستفادة منها في التعامل مع تراثنا. وإذا كان منشأ هذا الحذر هو النتائج والآراء التي توصل إليها بعض المستشرقين في تطبيقاتهم لهذه المناهج على التراث الإسلامي، أو لأن من يلتزم بهذه المناهج في العالم العربي والإسلامي هم باحثون وكتاب لا يلتزمون بالإسلام كمرجعية شاملة ولا يتقيدون بأصولها. الأمر الذي جعل من النتائج التي يتوصلون إليها لا تتوافق بالضرورة مع المرجعية الإسلامية، أو حين تخضع أبحاث هؤلاء لتوظيفات أيديولوجية تتصف بقدر واضح من التعسف والانفلات وعدم الموضوعية. في الوقت الذي يتم فيه التشدق والمبالغة بتلك المناهج. كل ذلك يفترض أن لا يبرر القطيعة والرفض الكلي والنهائي لتلك المناهج، وإنما العمل على ضبطها والتحكم بها والتمكن منها. ومن هذه المناهج المفيدة الألسنيات أو اللسانيات والبنيوية والفينومينولوجيا ـ الظاهرية ـ والايبستيمولوجيا والانثربولوجيا وغيرها من مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية. لكن لا ينبغي المبالغة الشديدة في تطبيق هذه المنهجيات كما يحلو لبعض المثقفين تحت ذريعة القراءات المعاصرة للتراث. وهناك جدل بين المثقفين حول هذه المناهج وتطبيقاتها في قراءة التراث. ومازالت القضية هي كيف نبني نظرية معرفية لقراءة التراث1؟ 

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 5 يناير 2005م، العدد 14011.