حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
ازمة قائد ام ازمة وعي؟ ام الاثنين معا؟
قال الله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ 1.
مَليئةٌ هي كتبُ التأريخ والسِيَر بذكر المُلوك والحكّام، وقليلة هي صفحات العز حينما تَستذكر قادة رفعوا لواء الإصلاح وبناء الفكر فأناروا ظُلُمات من الجهل بأنوار الوعي فَبَعَثوا الأمل في نفوس المستضعفين فَأعتَقَهم من عبودية الطاغوت، وسار بهم نَحو فَجر الخلاص. وعلى الرغم من كل الكتب التي كُتِبَت وأطنان الحِبر التي سُفحت فإن السؤال مازال يُحلّق فوق رؤسنا يسأل عن جواب في ثنايا جَدليّة تَنحَصر أبعادها في التالي:
البعد الأول: هَل أنّ ما نُعانيه من غيابٍ للَوعي المُجتمعي وجَهلٍ وأميّة سَببه غياب القائد المُخلّص؟ وأنّ أزمة القائد قد أوجَدَت فَراغاً مَلأه المٌتَسلّطون بِمَنهج تَغييب الوعي وتحجيم الفكر؟ لذا فلا نَهضة ولا أصلاح ولا وَعي من دون قائد يُرشد الأمة ويوحد كلمتها ويقودها نحو الخير والصلاح.
البعد الثاني: إن أزمة القائد وغيابه منشأه غياب الوعي والإدراك لدر الأمة واستفحال الأميّة وتَفَشّي الجّهل؛ ظواهر خيّمت فوق ربوع مجتمعاتنا وضَربت بأطنابها وعشعشت في عقولها فأصبحت عاجزة عن إفراز وتقديم القائد المُخَلّص؛ ففاقد الشيء لا يعطيه؟
البعد الثالث: إنها أزمة مركبة من كلا البعدين؟
ومن خلال هذا البحث المُقتضب سنسعى جاهدين للولوج في فلك هذه الجدلية آملين أن نستقر على جواب نحاول من خلاله وبمنهح النقد الذاتي قراءة الواقع بصورة أوضح وأيجاد جواب شاف.
تُعتبر القيادة من أهم المُقَومات التي تُحدد آلية وأسلوب ومنهجيّة التعامل داخل إطار الأمة؛ إنها القدرة على توجيه النّاس نحوأهداف محددة، إنها عِلم وفن ومهارة وشجاعة، قد تكون فطريّة وقد تكون مُكتسبة، لا يُدرِك حقائقها ويَحمل اثقالها إلا من أمتلك خصائصها، فالتاريخ والتجربة والمنطق كلّ ذلك يُنبئ أن لا مكان للإصلاح ولا نهضة مُجتمعية فكرية تَوعويّة من غير قائد قد ارتسمت وتَجذّرت فيه الصفات الحقيقية للقيادة، يسير بالأمة نحو مدارج الرقي والتكامل، وهذا هو التجلّي للبعد الأول من الجدلية التي بدأنا بها البحث.
ومن جانب آخر فإن التحجّر الفكري والشذوذ والتطرف في تبني المناهج الحركية إنما هي مُقدمات لعملية التّصفير المُمنهج للعقل الفردي وإبقاءه خال من الوعي والحكمة وحصره في دائرة الجهل الطوعي، أو التجهيل المُبرمج، ما يستلزم تحفيز الوعي والفكر المستنير الرافض لكل المفاهيم الدخيلة والأفكار المنحرفة التي جاء بها المستبد وأقلامه المأجورة بشعارات ومسميات مختلفة من أجل مواصلة التسلط والتجبر.
إنّ المَنهج الإصلاحي عندما يتجذّر في الوعي الفردي والذي هو جزء من منظومات مُتداخلة تَعمل من أجل بناء وعي مجتمعي إنما هو الركيزة الأساسية الكفيلة ببلورة إتجاهات تؤسس لمناخ نَهضوي يسير بالأمة نحو التكامل والرقي، لذا فإن وعي الأمة منوط بوعي أفرادها، وأنّ الأزمات التي تعصف بنا في وقتنا المعاصر تتمحور في غياب عناصر ومقومات بناء الإنسان الرسالي، الإنسان النموذج الذي اراده الله.
مِن هنا وُلد الصراع بين عناصر ومقوّمات بناء الإنسان الواعي وبين مظاهر العولمة الفاسدة والتي أسست لها قوى الشر والتي ما برحت تُصدّر لنا قَوالب جاهزة نَتلقّفها من أجل صناعة إنسان خانع ذليل؛ إنّه صراعٌ بين الإنسان النَموذج والإنسان العاجز فكرياً، المُقَيّد وَالمُقَيِّد لنهضة الأمة والمثبّط لمسيرتها نحو التكامل والرقي والتقدم. إن هذه القوالب المستوردة قد تسببت بإحداث شرخ عميق في المنظومة القِيَميّة والأخلاقية للأفراد والتي كانت كفيلة بالغاء الحس الوطني وطمس الهوية الرسالية ومحو قُدسية الولاء والتضحية من أجل هذه النهضة. قوالب الغَت الوعي المجتمعي وعمّقت الإنقسام بين طبقات المجتمع الواحد والذي تحول الى تكتلات وأحزاب تحتكر القرار السياسي وتسيطر على مقدرات الأمة، وأما عامة الناس، فبين لاهث ومُطبّل وبين مُستَضعَف صامت يعاني الفقر والتهميش والإهمال.
غياب الوعي الفردي هذا قد أسس بشكل أو بآخر لأنهيار في منظومة العلاقات الإجتماعية والأسرية فتفاقمت الجريمة وارتفعت معدلات الطلاق وانتشرت الخمور والمخدرات والأفلام الإباحية والشذوذ الجنسي وحالات الإغتصاب والتحرش في تَحَدٍ سافر للقيم والمعتقدات، بل أن حالة الجهل المُتقع قد ضَرب بأطنابه عقول الشباب فتشوهت العقيدة باسم الإنفتاح وحرية التعبير فانتشرت ظاهرة عبادة الشيطان!! منعطفات خطيرة وتحولات في القِيَم والمفاهيم والمعتقدات يصعب قراءتها والتنبؤ بنتائجها. وأصبح المال هو سيد الموقف، فَبِه يتم شراء الذِمَم ومِن أجله استشرى الفساد ودَبّ الإهمال والتقصير في المؤسسات الحكومية وانتشرت ظاهرة الرشاوى وحيتان الفساد المرتبطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة بصُنّاع القرار السياسي، الذين لا يدّخرون وسعاً لإبقاء وتعميق حالة غياب الوعي لدى الفرد من أجل إحكام السيطرة على مقاليد الحكم ونهب مقدرات الأمة.
ما يجري اليوم هو سرقة في وضح النهار لأقدس ما أعطى الله جل وعلا وهو الفكر والوعي والإدراك، إنها عملية مَحو ومسخ للهوية الوطنية والإنتماء الفكري والعقائدي من خلال التغييب المتعمد للشرائع والأعراف بشكل ينذر بخطر يهدد حاضر ومستقبل الأمة.
وهنا يتجلى البُعد الثاني من الجدلية التي بدأنا بها البحث وهو غياب الوعي لدى الأمة والذي هو المَنشأ لغياب القائد؛ لذا فإنه مِنَ المُؤلم أن ينحني الفردُ ذليلاً صريعاً لفكر ضحل فيعيش البؤس والشقاء بسبب تردي الوعي المعرفي جرّاء تهميش ذاتي وابتعاد عن منابع العلم والمعرفة أو بسبب إقصاءٍ متعمد ممنهج يمارسه الحاكم المستبد ليجعل الفرد يعيش حالة من الإنكفاء والانعزال، عزلة تقوده الى أن يعيش اللاأبالية لما يجري لمجتمع أصبح يكدّس بضاعة الجهل والتخلف في سوق الأمية والغياب الفكري.
وحينما تنهض الأمة نهضة واعية مدركة لحقيقة الأخطار التي تحدق بها وحينما تكون الأهداف النهضوية أهدافاً إنسانية والوسائل مشروعة تنطلق من حاجات وآلام المستضعفين، سَتُشحذ عندها الهمم وتذكى العزائم ويبدأ الفرد بانتشال نفسه من وحل الجهل وينهض بإصلاح فكره والسير باتجاه تحقيق وعي مجتمعي ناضج، عندها تبرز وتتبلور الحاجة لوجود القائد الرسالي، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلا2)، فمسيرة البحث عن الوعي والتكامل لابد لها من قائد مُخَلّص يجد في وعي الأمة سَنَداً ومُتّكئاً وآذاناً صاغية تستجيب اليه وتلبّي دعوته، تسير خلفه طائعة مُستبشرة بأمل مشرق نحو بناء الوعي وإصلاح المنظومة الفكرية وتعديل الإعوجاج في المنهج السياسي. لذا فإن من أولويات نجاح القائد هو وعي العامة من الأمة والتفافها حوله وعدم التخلّي عنه حتى في اصعب الضروف وأحنكها، قال الله تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ 3.
وبقراءة أدق لطبيعة المَهام والصفات المطلوبة للقيادة يتضح نسق تراتبي من المَلَكات والصفات التي يجب توفرها في القائد، وهذه الصفات لها بعدين مترابطين ؛ البعد الأول يتعلق بصفات القائد نفسه، والبعد الثاني يتعلق بطبيعة ومنهجية علاقته وأرتباطه بالرعية.
أما البعد الأول فهي الصفات التي لابد للقائد أن يَتّسِم بها ويتّصِف والتي تشمل العلم والمعرفة والإدراك الواسع والمشفوع بالعمل والتطبيق بكل أمانة انسجاما مع مبادئ ومعتقدات وسلوكيات انسانية صحيحة تنبع من علو مراتب الإيمان بالله جل وعلا، ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ 4 ولأنه القائد فلا بد أن يكون قوله منسجماً مع فعله، حتى يكون أنموذجاً يحتذى به، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ 5.
ومن الصفات الأخرى هي البأس والثبات والشجاعة والإقدام وروح التضحية وأن يكون أول المتقدمين غير متخاذل ولا متردد عند أشتداد المحن وتنامي الفتن، ﴿ يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ 6، وأن لا يقبل الرُشى ويُنكرها قولاً وفعلاً، ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ 7.
وأما البعد الثاني والذي يُؤطر طبيعة العلاقة بين القائد والأتباع فتتقدمها صفات الرحمة والعفو وخفض الجناح والمشاورة، ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 8.
وعلى القائد ايضا أن يكون عادلاً منصفاً بين الرعية مبتعداً عن الظلم والبغي، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 9، وحينما لا يتّسم القائد بصفة العدل ولا يأتمر بها يكون ذلك نقض لصفة عقلية قد حددها العقل والمنطق، وتلك ستكون اذاً مثلمة وعجز لا يجدر بالقائد الحكيم أن يَتّصف به. كما على القائد أن يكون هادياً وموجهاً وآخذاً بالأمة نحو وحي الله وشرائعه ومناهجه، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ 10.
وخلاصة الحديث فإن النّهضة المجتمعية مرتبطة بمنهج التغيير الفكري الإيجابي، منهج أساسه الحركة بوعي وبصيرة وليس الركود والإنكفاء، حركة ترفض الإستبداد بكل أشكاله ومسمياته، نهضة لا تكتمل الاّ بقائد رساليّ يوجه العقول ويستقطب القلوب نحو البناء والإصلاح المجتمعي الذي قوامه الوعي والفكر والإدراك؛ وتلك هي مسؤوليَّة كبرى ومسيرة طويلة لا تكتمل دون طاعة الأمة والتفافها وتمحورها حول القائد من أجل مواصلة الطريق، وأن لا تكون هذه الطاعة نابعة من أطماع دنيوية، فيخذلون القائد حينما تتقاطع المنافع والمصالح فينكفئون عنه ويخذلونه وربما يميلون الى خصومه، وصفحات التأريخ حافلة بغرائب البشر مليئة بالدروس والعِبَر.
- 1. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 49 و 50، الصفحة: 116.
- 2. الكافي: ج1 – ص184.
- 3. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآيات: 93 - 96، الصفحة: 303.
- 4. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 55، الصفحة: 242.
- 5. القران الكريم: سورة الصف (61)، الآية: 2 و 3، الصفحة: 551.
- 6. القران الكريم: سورة مريم (19)، الآية: 12، الصفحة: 306.
- 7. القران الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 36، الصفحة: 380.
- 8. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 159، الصفحة: 71.
- 9. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 58، الصفحة: 87.
- 10. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 73، الصفحة: 328.